الجغرافيا هي مسرح التاريخ، فرواية الأحداث التاريخية المنفصلة عن مسرحها الجغرافي أشبه بالبناء فوق الهواء، لا أساس له، وكذلك فإن التاريخ هو روح الجغرافيا وذاكرتها، فالجغرافيا بلا تاريخ شيء ميت لا روح له ولا ذاكرة له.
والجغرافيا السياسية أحد فروع ذلك العلم الذي يهتم بدراسة الشخصية السياسية لمساحة معينة من الأرض، والتاريخ هو أحد مكونات الشخصية السياسية. ولذلك، فإن تشويه التاريخ هو جزء من الحرب الشاملة لتدمير تلك الشخصية السياسية.
وهذا النوع من الحرب موجود طوال الوقت، إلا أنه كان يأخذ شكلا لطيفا بكونه بحثا علميا أو إعادة قراءة للتاريخ، مع إغفال أمور هامة تؤدي للوصول لنتائج تتوافق مع الهدف الرئيس للسلطة، ألا وهو الانتصار في معركة تدمير الأصول الفكرية للآخر.
صُنِع تاريخ كامل على مدى زمني طويل ليمهد لجغرافيا اليوم، وأصبح توافق التاريخ المكتوب والمعروف مع التاريخ الحقيقي أمرا محل شك.
ربما يعترض البعض أن التاريخ المكتوب لا يمكنه التطابق مع الحقيقة.
صحيح؛ ولكننا نتحدث عن تشويه عمدي للتاريخ، وربما يصل في بعض المراحل لصناعة تاريخ، وهذا لصالح لتشكيل جغرافيا جديدة.
والتاريخ دائما يكتبه المنتصر، وإذا كان المنتصر مجرما، فلابد أن نتوقع كيف سيكتبه.
فحكاية سكان الأمريكتين الأصليين الذين أبيدوا، وحكاية رجل أوروبا المريض، وحكاية الحرب العالمية الثانية، ربما تكون كلها كاذبة ومشوهة، لوجود رغبة في تشكيل جغرافيا جديدة.
استمرت حرب التاريخ من جانب واحد مئات السنين، وأصبح هناك تاريخ رسمي وهو ما تتبناه الأنظمة، ومعيار تحديد هذا التاريخ الرسمي هو ما يتوافق مع أهداف النظام، سواءا كان تاريخا صحيحا أم مزيفا.
على مدى زمن طويل، لم تكن هناك مقاومة جدية لهذه الجريمة، وفي الخمسين عاما الأخيرة، بدأت قوى متعددة في إعادة قراءة التاريخ لتحاول معرفة الحقيقة.
وبالطبع، ليست الحقيقة الرسمية، واستطاعت أن تدخل في معركة غير متكافئة بين تاريخ رسمي مدعوم بكل الإمكانات المتاحة، وبين تاريخ يقترب من الحقيقة مدعوم بكونه الأقرب للصواب والحق، ومدعوم بإصرار أصحابه على حماية وجودنا بعرض تاريخنا الحقيقي.
إن التاريخ ليس مجرد حكايات ولكنه في الغالب يكون أحد المقدمات الرئيسة لما يمكن أن يكون غدا، وما نراه من استمرار المعارك بتشويه تاريخ كبار رموزنا هو جزء من التمهيد لما هو قادم، وهذا جزء من تفسير الهجمة على أحد أكبر رموز الأمة البطل صلاح الدين.
ولا أستطيع فهم لماذا استغرب البعض الهجوم على هذا القائد الفذ من إحدى النخب الثقافية المصرية؟
فمنذ أيام أيضا، شكك أحدهم في المعراج، وهو ليس فقط حدثا تاريخيا، ولكنه جزء من الإيمان في الإسلام.
لذلك، لم يكن مستغربا حدوث ذلك الهجوم، بل على العكس هو في السياق العام الذي يريد تحطيم كل مظاهر العزة في التاريخ الإسلامي. الرد على هؤلاء بالحقائق التاريخية جيد، ولقد كفى الجميع الصديق محمد إلهامي في مقاله عناء الرد عليه من الناحية التاريخية.
بل ربما أجد هذا المتحدث أكثر شجاعة في التعبير عن توجهاته الفكرية، حيث يقوم بالكذب والتزويرلترسيخ فكرة ما يريدها، وهذا التزوير أمر طبيعي في روايات التاريخ الرسمي.
صحيح هذا غير أخلاقي، ولكنه واقع يحترفه الكثير، أما ما يثير الدهشة والغضب هي بعض الأطراف التي ترفض ما يقال من حقائق في موضوعات ما، وترفض الدخول في معركة تاريخ، وترى أنه ليس من الضروري تفتيت كل قناعات الجماهير الخاطئة حفاظا على النظام العام، بينما يمارس الذراع الثقافي لسدنة النظام كل الموبقات لترسيخ قناعات خاطئة بل وتدمير كل ما يمت بصلة لمعتقدات وتراث النماذج الحضارية الأخرى بشكل ساحق.
ما الفارق إذا بين من يشوه بالباطل كل الثوابت وبين من يحافظ على الروايات الرسمية بأي شكل كان؟ أعتقد لا فارق.
إن معارك التاريخ المشتعلة غيرت جغرافيا العالم مرات عدة ما بين إبادة عشرات الملايين “الهمج” في الأمريكتين، والحقيقة أنهم ليسوا كذلك، وغيرت الجغرافيا أيضا بعد الحرب العالمية الأولي التي لا نزال نعاني من آثارها المدمرة في منطقتنا بحجة الرجل المريض، وهو لم يكن مريضا كما قالوا لنا؛ ومرة أخرى بعد الحرب العالمية الثانية، وأدت إلى ما يعاني منه العالم كله الآن.
والآن المعركة أصبحت في الأصول والتراث، وما زال استخدام الكذب مستمرا، وما زال منا من لا يريد إدراك أن معارك تشويه التاريخ هي مقدمة معارك تغيير الجغرافيا.