على مدى مئتي عام؛ استطاعت قوى الاستعمار صناعة أذرع عديدة داخل المجتمعات العربية، والمجتمع المصري أحد نماذج تلك الصناعة ولكنها أكثر تعقيدا نظرا لكبر حجم المجتع المصري واحتكاكه الواسع عبر تاريخه بعدة ثقافات متنوعة.
امتد التوغل الإمبريالي إلى كافة رؤوس السلطة وإلى المفاصل المركزية بالمؤسسات؛ ولم يقبل الاحتلال بوجود أية مؤسسات أو منظومات اجتماعية قديمة وفتَّتَها تماما مثل منظمات الوقف والمؤسسات القضائية والتعليمية وغيرها الكثير مما يصعب حصره، وما لم يستطع تفتيته قام بإعادة توجيهه أو استمالته تماما كما حدث مع مؤسسة الأزهر ومؤسسات الكنائس.
بهذا الفعل استطاعت السيطرة على المفاصل الرئيسية لمؤسسات إدارة السلطة، ومع الوقت زاد معدل السيطرة حتى وصل إلى التحكم شبه الكامل بها، وليس بالضرورة التحكم هو سيطرة اللاعب على عرائس الماريونت ولكنها صناعة نظام ما من طبيعة معينة للأشخاص الموجودين بالسلطة لا تجد حلا إلا باللجوء بل والانبطاح الكامل لإرادتهم.
لم تكن رأس السلطة فقط ملعبهم؛ ولكن كانت القوى المجتمعية أيضا أحد أهم الأهداف، فصنعت عدة شبكات في مجالات متعددة ومنها مجال الثروة الذي ارتبط الآن بشكل شبه كامل بالمصالح الخارجية، وتكونت مع مرور الوقت مجموعات منفصلة تماما عن باقي المجتمع كل ما تفعله هو جمع الثروة وإفقار الشعب، وقد اشتهر مصطلح الكمبرادور الذي يوصف تلك الطبقة الرأسمالية المعادية للشعب والمرتبطة تماما بالاستعمار.
لا يكفي ذلك لأي قوى استعمارية لكي تسيطر على مجتمع ما؛ فكل ما سبق تكلفة الحفاظ عليه كبيرة للغاية في حالة وجود شعب قوي فاعل مدرك لطبيعة معركته، لذا حتى تقل الخسارة المتوقعة من المعارضة الشديدة لما سبق؛ فيجب فعل أمور أخرى بداخل هذا البناء المجتمعي.
وأهم تلك العناصر هو امتلاك رموز سواء كانت ماريونت أو رموزا تأثرت بشده بكل العوامل التي يصنعها المحتل فتقوم تحت هذا التأثير بما يريده دون تدخل مباشر، وزاد من تلك الأزمة ارتباط تلك الرموز بمالكي الثروة؛ فقد أصبح من الصعب أن تؤثر في الرأي العام دون وجود ثروة ما. بالتأكيد نجا البعض من هذه الفخاخ المتتابعة، وبالتأكيد أيضا كما يؤكد الكمبرادور أنهم يعملون من أجل تنمية اقتصاد الوطن؛ فإن الكمبرادور السياسي يؤكد أيضا أنه يعمل لصالح الوطن.
الناجون هم المرتبطون فعلا بالشعب، وهنا نجد في ظل الوضع الحالي صعوبات كبيرة لتوصيف ذلك توصيفا صحيحا؛ فالجميع يدعي ذلك بداية من رأس السلطة العميلة مرورا بمؤسساتها والكمبرادورات الاقتصادية والسياسية، فالجميع يدعي أنه مرتبط بالشعب، ويخاطبه بقدر عال من الحميمية وكأنه ولد من أجلهم.
لذلك فهناك حالة من السيولة الشديدة ليست فقط في السلطة ولكن في الأفكار والمجتمع مما أدى إلى ظهور الكثير والكثير ممن يقولون أنهم يعملون من أجل “الشعب” وهم في الحقيقة بعيدون تماما عن ذلك؛ ولكنهم يستغلون الوضع المجتمعي البائس الحالي لمحاولة فرض واقع يكتسبونه من التراكم عبر المئتي عام، فقد صنعت تلك الأعوام مجالا خصبا وقاعدة متماسكة.
وأرى أن أهم عامل ربما يظهر انتماء الرموز للمجتمع هو مقاومتهم الشرسة لذلك المجال الخصب وتلك القاعدة المتماسكة، وعليهم تفتيت كل ما نتج عن الاستعمار من منظومات سياسية واقتصادية سلطوية والأهم هو مواجهة الحيتان الاقتصادية والكمبرادورات السياسية التي تحاول الآن ضرب آخر ما يمتلكه المجتمع وهو رموز ما تبقي من قوى مجتمعية حقيقية تناضل من أجل حرية أوطانها.
إن مظاهر هذه المعركة قد لا يمكننا حصرها ، وربما معركة الأزهر الأخيرة لا يمكن توصيفها فقط بأنها محاولة لحماية الأزهر؛ فما تعرضت له المؤسسة من تدمير مذهل عبر العقود السابقة وخاصة الأعوام الثلاثة الأخيرة لا يمكن أن ينبئنا ولو بقدر يسير أنها محاولة للعودة للطريق الصحيح، ولكن المظهر الأكثر وضوحا – على الأقل بالنسبة لي – هي محاولات من الكمبرادور السياسي لإيجاد أي وسيلة لحماية المجال العام الصالح لوجوده، فهو لا يمكنه البقاء إلا وسط النموذج الحالي؛ فأي تغيير في بنية المجال السياسي والاقتصادي هو بمثابة سقوط مروع له.
إن محاولة صناعة مناضل من داخل المنظومة التي تتعارك من أجل شيء ما ربما لا نعرفه ولكنه ليس له علاقة بالشعب؛ هي أحد أدوات الكمبرادور السياسي للإبقاء على وجوده؛ وهناك أمثلة أخرى كثيرة معاصرة تؤكد ذلك؛ وعلى من يحاولون في طريق التحرير الحقيقي إدراك حقائق التاريخ القريب أن الكمبرادور الاقتصادي أودى بنا إلى الفقر والعبودية، وبالتأكيد الكمبرادور السياسي سيلقينا في الجحيم.