كثيرة هي المصطلحات اللطيفة التي انتشرت منذ عدة سنوات؛ منذ أن علمنا – ليس جميعنا بالتأكيد – أن هذه المصطلحات اللامعة تخفي وراءها شيئا آخر مختلفا تماما بل وربما معاكسا لما تبدو عليه.
ومن شدة هذا العنف أصبحت هناك مسلمات غير قابلة للنقاش ولا توجد مشكلة أن تكون المسلمات متناقضة بينها وبين بعضها؛ المهم أن يستخدم صانع الحدث المسلمة الصحيحة في الوقت الصحيح وعلى الجماهير احترام إرادة صانع الحدث.
فلا بأس أن تخرج بلافتة الأقلية الكبيرة والأغلبية القليلة عندما تكون النتائج المتقاربة على هوى صاحب الريموت كنترول؛ ولكن عندما تكون النتائج “جيدة” فيمكنك أن تخرج بلافتة روعة الديمقراطية وتنتشي فرحا بتقارب النتائج ومدى وعي الشعب، ولا مشكلة أيضا أن تخرج بلافتة الديكتاتور المحتمل بدلا من لافتة انتصار إرادة الشعب عندما يكون المنتصر عدوا لدودا لك، فما أسهل صناعة الحدث في عالم مليء باللافتات السابقة التجهيز.
إن ما يطلقون مصطلح الديكتاتور المحتمل هم إخوة لمن قالوا الأغلبية القليلة ومكانهم إما علي فوهات المدافع في مقدمة الانقلابات العسكرية أو يخرجون مبكرا من التاريخ، والحقيقة أن المشكلة ليست في هؤلاء؛ فهم يسعون بكل طاقتهم باستخدام لافتات صناعة الوعي التأثير علي القطاعات الواسعة من الجماهير ليسيطروا على عقولهم بمصطلحات المبدعين الجدد، وهي مع الأسف شديدة الخطورة؛ حيث ينتج ذلك مجالا خصبا لآخرين يبدأون في استخدام “الاعتراضات الموضوعية” ليأكدوا بوعي أو بدون وعي ما يردده المبدعون.
أما “الاعتراضات الموضوعية” مثل توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية؛ فهذه نتيجة أزمة أخرى، فالمشكلة قطعا ليست في شكل نظام الحكم بالدولة الحديثة ؛ فهناك نظم رئاسية مجرمة وهناك نظم برلمانية أكثر إجراما وكذلك الملكية، فشكل النظام الحاكم ليس له علاقة بمدى عدالته أو تمثيله للشعب، وهناك ملاحظة أخرى هامة ذكرها الشيخ حازم أبو اسماعيل في إحدى نقاشاته حول شكل النظام الحاكم في الدول الكبرى، وأشار إلى أنها جميعها نظما رئاسية كما أشار إلى أن أي احتلال يسعى لتكون الدول التي تحت سيطرته برلمانية.
بالتأكيد كل نظام له مشاكله وعقباته إلا أن النظم البرلمانية في أي مجتمع لم يحسم بعد الإجابات على الأسئلة الكبرى؛ أو مجتمع يحتوي على أعراق وطوائف متعددة؛ فيكون المجتمع دائما في أزمة كبرى ويكون النظام البرلماني أشبة بالقنبلة التي تنفجر بين الحين والآخر.
لذلك فإن الديكتاتور الحقيقي وليس المحتمل هو من ينشأ في مجتمع قابل للاستبداد وليس في مجتمع تحرك بأكمله لإسقاط انقلابا عسكريا، وهذا بالتأكيد ليس له أي علاقة بطبيعة نظام الحكم في الدولة الحديثة.
يخبرنا التاريخ الطويل أن مانع الاستبداد هو التوزيع الحقيقي لأدوات القوة، وأن المجتمعات الحية التي تمتلك تلك الأدوات يصعب تركيعها للاستبداد، والحقيقة أن النصوص والدساتير في النظم المعاصرة – إلى حد كبير- توضع لتوصيف الواقع وليس ضبطه وهي أيضا تعبر بشكل ما عن التوازن الحقيقي للقوة وليست لتغيير أوزان القوة.
تركيا تغيرت كثيرا وجرت مياه كثيرة في أنهار الأناضول، وتتعرض لضغوط كبيرة ربما من كافة المحاور، والمحاولات المستمرة لضرب التجربة التركية للتحررلا تخفي على الأطفال في أزقة الكوكب؛ بداية بمحاولات التخلص من الرئيس أردوغان ومرورا بصناعة الفوضى والعنف ونهاية بانقلاب 15 تموز والعداء السافر المعلن من أوروبا، كل هذه الأمور تجعلنا لا نحمل نية طيبة لكل من يرقص على ألحان أغنية الديكتاتور المحتمل، وعلينا إدراك أن المعارك الكبرى تجبرنا على الإبحار في سفن غير سفن العدو وأيضا تذكرنا تلك المعارك بأنه ليس من الحكمة الغناء على أوتار آلاتهم “الموضوعية” وخاصة عندما نعلم أنهم يخبئون بها أسلحتهم.