هناك الكثير من الأحداث التاريخية سواء في مصر أو غيرها تشير إلى أن حماية المصالح الشخصية ربما تطغى على الأفكار، أو بمعنى أدق يحاصر العقل نفسه بمقدمات ليست صحيحة فيصل إلى استنتاجات ليست حقيقية ولكنها تمس مكان ما أو حالة ما تتماشى مع ما اعتاد عليه أو على ما يريده.
حسنا هذا الكلام ليس واضحا؛ ولكي يكون أكثر وضوحا فسيكون المسؤول عن الجوع في أي مجتمع هو محور الحديث لمحاولة أكثر للتفسير، وبالمناسبة فالجوع قبل أن يكون وجوده المستفحش عارا على أي مجتمع فهو جريمة متكاملة الأركان، وكما أعلم فمنع الحق عن الوصول لأصحابه هي جريمة تستوجب العقاب.
وقبل الحديث عن حالة الهياج العامة والتشويه المتعمد لتحويل جريمة المشاركة في تجويع البشر إلى حق تشريعي وشرعي؛ دعونا أولا نتحدث عن الجوع، وسأحاول الابتعاد عن الأفكار المسبقة؛ ولكن لا داعي فأنا أؤمن باستحالة خروج أي منا عن إطار ما يصنع تفكيره وبالتالي آراءه، على أية حال سأحاول على الأقل أن أستعرض الجوع من وجهة نظر أحد البائسين الذي لا يضمن وجبته التالية ربما كان هذا أكثر وضوحا من آلاف الكتب.
فالجوع الذي أعنيه هو ذلك الجوع الذي لا يضمن صاحبه إنهاءه، فهو ليس بجوع الصائم الذي ينتظر وليمة الإفطار ولا جوع الزاهد القابع في صومعته بقرار ذاتي فرارا من شيء ما أو بحثا عن شيء ما، ولا ذلك الجوع الذي يعاني منه الراغبون في الحمية فهو اختياري في كل تلك الحالات، إنما الجوع الذي أعنيه هو جوع ذلك الرجل الذي لا يدري هل سيحصل على وجبة طعام يقيم بها رمقه أم لا في رحلته اليومية مع الجحيم الذي يلاقيه.
طوال التاريخ القديم كان الجوع ناتجا عن الكوارث الطبيعية أو الصراعات المسلحة على الموارد، وكانت المجتمعات تتحرك ببساطة وبقرار جمعي بحثا عن الطعام والماء، وهذا الشكل يجعل من الفرد أو الجماعة الصغيرة مسؤولة بشكل ما عن جوعها، ولم تكن هناك كل هذه التعقيدات الحديثة، فببساطة يمكنك إنتاج ما يكفيك من الطعام دون الخروج من مكانك إلى أي مكان آخر في العالم ودون أن يمنعك أحد.
ومع ظهور الإقطاع والرق والنظم المركزية ظهرت أسباب أخرى للجوع وتمركزت في الظلم الفادح لقطاع من البشر للبقية، واستطاعت القلة المسيطرة على مركز السلطة باستخدام التشريعات والقوة أن تزيد من هيمنتها على مقدرات الغالبية البائسة، إلا أن صعوبة السيطرة الكاملة نظرا لضعف وسائل الاتصال والتعدد الكبير في مراكز السلطة قبل النموذج الحالي للدولة المركزية ووجود قوى مجتمعية تمتلك قدرا من القوة ساعدت في تقليل مساحة الظلم؛ فاستطاعت تكوين مناطق محررة من الجوع إن صح التعبير.
ومع زيادة “التطور” والسيطرة المركزية السلطوية؛ سيطرت الدولة على الكثير من الأمور فلم يعد حق التحرك أو الحياة في أي مساحة من الأرض الفارغة التي لا يملكها أحد أو القيام بأي فعل متاحا، بل يجب أولا الحصول على إذن الدولة ومؤسساتها للقيام بذلك، ومع الاستبداد المطلق يصبح هذا الأمر كارثيا.
لقد تطور الجوع منذ القدم، فقد كان إلى حد كبير مسؤلية فردية أو على مستوى جماعات صغيرة وتطور مع الوقت حتى أصبح الآن مسؤولية الدولة، وخاصة بعد تنامي المستعمرات الجديدة المسماة المدن وأحب تسميتها “كنتونات العمال”، فهي تحتوي على الأيدي العاملة المتاحة لتعظيم الثروة لصالح أصحابها، ربما هذا حتمي الآن في وجهة نظر البعض؛ لكن بالتأكيد ليس من الحتمي التخلي عن هؤلاء البشر عندما لا تحتاج إليهم، كما أنه ليس من الأخلاقي صناعة فائض من الأيدي العاملة لخدمة رأس المال ثم إلقاؤهم ليواجهوا مصيرهم بعد ذلك عندما يجد رأس المال بديلا أرخص من البشر. ولهذا فإن إعانات البطالة وتوفير المسكن وغيرها من الإجراءات التي تقلل حجم الجريمة ليست منحة من النظام ولكنه الحق المتأخرللعامل الذي سلبته إياه السلطة التي تعمل لخدمة رأس المال.
لقد أنتج “التطور” مئات الملايين من ساكني كنتونات المدن ومثلهم على أطرافها في كل العالم، أنتجهم التطور الحداثي وأصبحوا في مهب رياح الجوع وخاصة في دولنا المستبدة. ربما هناك جوع في كل العالم ولكنه أكثر قسوة وظلما في بلادنا التي جمعت كوارث الحداثة وجرائم الاستبداد في جريمة متكاملة الأركان.
إذا فالجوع ليس بالضرورة خطأ شخصيا بل ربما هو أبعد ما يكون عن ذلك وإنما جريمة حداثية واستبدادية، وقد استطاعت الدولة الحديثة “حتى الآن” تجاوز المشاكل الناتجة باستخدام إجراءات تتعلق بحماية العمال سواء في أماكن عملهم أو عند فقد وظيفتهم، وما يهمنا هنا هي الجريمة التي نتجت عن توأمة بين استبداد السلطة وسيطرة رأس المال “الاستبداد والحداثة”، فكل منهما منفصل قد لا يؤدي إلى الجوع أما توحدهما فالنتيجة المنطقية والطبيعية هي ظهور جريمة الجوع المتفشي، ولأن الجوع جريمة ناتجة عن توحدهما معا فمن العدالة أن يتحمل نتائجه الاثنان معا.
ليس من العدالة أن يلهث ما يقرب من 60 بالمئة من أهل مجتمع ما كل يوم كي يحصل على طعامه، وليس من العدالة أن يظل البعض يظن أنه طالما يؤدي ما عليه من التزامات للدولة أو التزامات دينية أنه فعل ما عليه من واجب، فالجميع بشكل مباشر أو غير مباشر مسؤول عن الجوع. الحديث هنا ليس عن الفسدة وسارقي المال العام والمتوحدين بثروتهم مع السلطة المستبدة لقهر الشعب، فلا أعتقد أن أي داع للثورة أو حتى التغيير المحدود لا يعترف بأنهم مجرمون، وأن الجزء المسروق الموجود في أموالهم هو حق للشعب، الحديث عن صاحب رأس المال “النظيف” الذي لا يسرق من المال العام “بشكل واضح” ويدفع ضرائبه ويدفع زكاة ماله، فكما أرى فإن جزءا من ماله يحمل أيضا قدرا من المال العام وهذا ما سأحاول توضيحه.
إن هذا النموذج “المثالي” لرجل المال في دولة الحداثة الاستبدادية يستخدم كل ما أنفقه الشعب على بنية أساسية من طرق وخدمات في مجال الطاقة ووسائل مواصلات ومواد خام يستخدمها في البناء أو الإنتاج، كما أنه يستخدم القوى البشرية بكل تخصصاتهم ومعارفهم التي حصلوا عليها سواء عن طريق التعليم أو الخبرات المجتمعية لإدارة العمل وتحقيق القيمة المضافة المادية، ولا أعتقد أن الجميع يرى غير الشعب مالكا لكل هذه الثروات، وفي الدولة الحديثة تكون الضرائب هي ثمنا لكل ذلك يدفعه صاحب رأس المال لتعود إلى المجتمع مرة أخرى، أما في دولة الحداثة المستبدة فالضرائب لا تعود إلى المجتمع بل تذهب إلى الدولة المستبدة ولا يعلم أحد كيف تنفق، وبالتأكيد الكل يعلم ذلك من أصحاب رؤوس المال “النظيفة” وإن لم يكن يعلم فقد علم الآن.
والنقطة الثانية أن صاحب رأس المال “النظيف” يقوم باستخدام كنتونات العمال “المدن” التي توفرها الحداثة لتوفير عمالة بلا ثمن تقريبا، واستطاعت الحداثة “حتى الآن” حل هذه المشكلة كما ذكرنا بتقوية النقابات العمالية وبإعانات البطالة والقوانين التي تحمي العمال ، أما الحداثة المستبدة؛ فقد تركت رأس المال يتحكم في كل شيء وتركت العامل وحده يلاقي كل هذه القوى، فلا توجد نقابات تحميه؛ بل كل ما تنتجه السلطة من قوانين سواء فيما يتعلق بالنقابات أو الأجور أو الإعانات الاجتماعية تجعله في مهب الريح دائما وتجعله بين خيارين إما جوع جزئى مع عمل أو جوع كامل مع بطالة، كما أنها تدعم الاحتكارات بل وتمارسها بشكل قانوني وممنهج، ولا أدري كيف يمكن لأحد أن يدعي أن هذه بيئة عادلة تعتمد على العرض والطلب، ولا أعلم كيف يجرؤ أحد على وصف الثروة الناتجة عن هذا الظلم البين بالمال الخاص.
لقد تلوث المال بالاستبداد وأصبحت كل ورقة نقدية تتحرك في بلادنا تحمل في جزء من قيمتها قدرا من الفساد السياسي الحداثي الاستبدادي حتى وإن لم يدرك صاحبها ذلك، وإذا أقررنا بضعف المسؤولية الفردية عن الجوع في ظل النظام الحالي، وإذا أقررنا بمسؤولية النظام السياسي عن الجوع وإذا أقررنا أيضا بالاندماج الكبير في النظم المستبدة بين المال والسلطة وأن كلا منهما يخدم الآخر بشكل ما بحيث يستحيل أو على الأقل يصعب تصور أحدهما دون الآخر كما يصعب تصور وجود قيمة نقدية بدون فساد ما ودون مسئولية عن الجوع، وأخيرا إذا أقررنا بأن الجوع في هذا المجال هو جريمة متعمدة وليست مشكلة الجائع فقط، فيصبح من غير المنطقي بقاء الأمور تدار كما هي عليه وربما نصبح مشاركين في صناعة الجوع.
ونأتي لنقطة أخيرة حول الاعتراضات الدينية على هذا المنطق طبقا لنصوص فقهية، وكما أعلم أن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلة، وقد تطور الفقه الإسلامي عبر الزمن في كثير من الأمور ليستطيع التعامل مع المتغيرات الاجتماعية والسياسية، وأرى أن الآراء الفقهية المتعلقة بالمال العام والخاص لم تستطع بعد تفهم الاختلاف الحاد بين منظومة السلطة والبناء المجتمعي التي بُنِيت فيها الآراء الفقهية القديمة؛ وبين منظومة الحداثة فضلا عن الحداثة المستبدة. ولهذا يبدو أن البعض يحاولون التمسك بالنصوص الفقهية التي نشأت في بيئة مخالفة تماما للواقع وإسقاطها على الواقع المختلف مما ينتج تشوها كبيرا في معانيها، ربما هذا الإسقاط للحفاظ على مصالح خاصة أو القناعة بعدم التوافق بين منظومة الدولة الحديثة والنموذج الإسلامي -وهذا من وجهة نظري صحيح- فإذا لا داعي للخوض في نموذج غير صالح وغير متوافق، أما دعم النموذج الحالي بآراء فقهية نشأت في نموذج مغاير فهذا غير مفهوم بل يدفع للشك في النوايا والدوافع.
إنها ليست دعوة لسرقة الأموال أو الأصول التي لها ضوابط كثيرة في الشرع أهل الفقه أعلم بها، بل هي دعوة لإنهاء الجوع المصنوع والذي تحول إلى جريمة متكاملة الأركان يشترك بها الجميع. ولذلك؛ عند الطعن في هذا القول وخلط الأوراق بين تحديد مسؤولية المجتمع عن الجوع وضرورة تحمل الجميع لها وبين حرمة المال الخاص فهو أيضا خلط يثير الشك في دوافع قائليه.
وكما أعتقد فهذه الطبقة البرجوازية بكل تشكيلاتها تدرك حجم الاستفادة من طبيعة النظام الحالي المستبد ومنهم من يريد تغييره تغييرا محدودا في نطاق الحفاظ على بنية النظام دون تعديلات جوهرية حتى يحافظ على وضعه الطبقي والاجتماعي، ولذلك عندما تتحدث عن حق للجميع في رفض الجوع بكل أشكاله – ولقد أوضحت أنها جريمة يشترك فيها الجميع-؛ تجد الجميع من كل التيارات يتخلون فورا عن عدائهم السياسي “الظاهر” ويبدأون في وحدة سريعة من الهياج البرجوازي، وهجوم مشترك كاسح على أي أحد يفكر في المساس بمصالحهم الخاصة.
إن هذا الأمر يجعل الصراع يبدو أن مركزه طبقي – وهو في نظري ليس كذلك بشكل كامل – ويرتدي عباءات مختلفة لحجب الحقيقة، ويتساوى في ذلك ربما الجميع، ولذلك فعلى الجائعين البائسين أن ينظروا بعمق إلى ما تحت الرداء ليعرفوا الحقيقة، لأن الحداثة والاستبداد معا يختبئان تحت تلك العباءات متعددة الألوان، وعليهم أن يبدأوا البحث عن حقوقهم خارج تلك العباءات حتى التي تبدو في أقصى اليسار.