هناك أولا فارق بين المخلص والزعيم. فكما أرى؛ المخلص هو من تنتظره الجماهير ليتحرك وحده بقدراته وقوته لإنقاذهم من شر ما يعيشون فيه، أما الزعيم فهو ذلك الرجل الذي يفتح المساحات الفكرية والحركية لأفراد المجتمع الراغبين في التغيير ويكون معهم في ذلك المسار.
إذن، فالمخلص منتج منفصل قادم من مكان ما؛ وهو بالتأكيد الحل الأسهل والأكثر أمانا للكثير، فلا صدام ولا خسائر ولا حتى تحرك ولا تضحية؛ فقط علينا الانتظار حتى يأتينا المخلص، وهذا النموذج استطاع النظام الحاكم في مصر أن يستخدمه وخاصة في السنوات الخمس الأخيرة ويبدو أن البعض يحاول إعادة إنتاجه مرة أخرى.
فقد استطاع النظام دفع شخص على أنه منقذ مصر وحامي الشعب، وصنع هالة كبيرة حول شخص واحد وصدر للكثير إحساس أنه هو المنقذ. ولأن الكثير من الجماهير تحب هذا النمط السهل المباشر؛ وجدت ضالتها فيه وخاصة مع امتلاكه لأدوات القوة الخشنة، فأصبح في ذهن الجماهير عاشور الناجي في أدب نجيب محفوظ.
إلا أنهم نسوا شيئا هاما في الفارق بين عاشور الناجي وبين مخلصهم، نسوا أن عاشور الناجي كان واحدا منهم، وأنهم التفوا حوله بكل ما يملكون في لحظة فارقة، ودخلوا في صدام حقيقي مع صاحب القوة، ونسوا أيضا أن زعيمهم كان مطرودا مشردا، لذلك فهو أقرب أن يكون زعيما لهم وليس مجرد مخلص يأتي فجأة، كما نسوا أن المخلص لا يصنع على يد النظام الحاكم.
تجيد الأنظمة فعل ذلك، وقد كانت إحدى الوسائل لإكمال الحبكة الدرامية هي تصدير الإحساس باستبداد النظام الحاكم المنتخب قبل الانقلاب، فلا مخلص دون ظلم واضطهاد، فكان تمهيد الأرض الضروري للضغط على الجماهير لانتظار المخلص.
إذن فنحن – حتى نتحرر – لسنا بحاجة لمخلص. ففي الغالب هذا النموذج لا يحقق نجاحا، وخاصة إذا كانت معظم مشاهده لزوم الحبكة الدرامية وليست حقيقية، أما ما نحتاجه حقا هو زعامات شعبية ليست قادمة من أعلى؛ بل من قلب الشارع حتى يلتف الشارع حوله ويحقق ما نرجوه من تحرير لمصر.
إذن هناك توجهان، الأول هو رسم المشاهد المحبوكة دراميا لتشكيل مخلص جديد يعيد الكرة القديمة، وبين اتجاه آخر يحاول بناء قيادة ميدانية من الشارع تقود الثورة، وهذا أحد مظاهر الصراع في مصر في تلك الفترة، وخاصة مع انهيار لا يخفى على أحد في قطاع داخل “الثوار” في تهافتهم غير المفهوم على كل “مخلص” يظهر في الأفق، سواء كانت الظروف تشير إلى إمكانية حدوث ذلك أم لا. ولا يكتفي المتهافتون بذلك؛ بل يحاولون طوال الوقت تفتيت أي قوة مهما كانت بسيطة أو كبيرة تحاول المضي في التوجه الآخر ببناء الشارع والقيادة الحقيقية.
هذا الصراع هو تطور لصراعات سابقة بين تيارين أو أكثر داخل المجال المعارض، وناتج عن تغيير طفيف في ميزان القوى لصالح المد الثوري، وانهيار الأعمدة التي قامت عليها فكرة المخلص الأول؛ مما يفتح المجال لظهور قيادة ميدانية ثورية، وربما هو واحد من أكبر المحاذير ليست فقط عند مركز الانقلاب العسكري في مصر، ولكن أيضا عند الكثير من القوى الباحثة عن مخلص.
هل ما زال التياران قادرين على تحقيق هدفهم؟ مع التأكيد أن نجاح أحدهما يعني فشل الآخر، ربما حتى الآن نعم؛ بالرغم من الضربة الهائلة التي تلقاها جناح انتظار المخلص، إلا أن الإصرار – حتى الآن – على التمسك بهذا المسار قد يحقق لهذا التيار قدرة على البقاء فترة أخرى.
وأرى أن تطورا كبيرا حادثا في التوجه الآخر الباحث عن زعيم شعبي حقيقي، وأن الكفة تميل لناحيته بشكل واضح، وأن الوقت في صالح هذا التوجه، وهناك ضرورة من القوى المؤمنة بالتغيير الجذري العميق للمساعدة في هذا البناء الكبير.
هناك ضرورة من القوى الشعبية لإدراك أن الفترة الحالية هي المثلى لإعادة صناعة المخلص، ولذلك ستكون المحاولات لصناعة هذا البطل الكرتوني على أشدها؛ وعلى الجماهير عدم تكرار كارثة صناعة المخلص السابق والإيمان أن الحل بقيادة ميدانية في الشارع تنتزع مع الجماهير الحقوق المسلوبة، كما أن عليهم إدراك أن هناك زعيما التفوا حوله وقاوموا السلطة، وهو الآن مختطف من عصابة صناعة المخلصين.