في ثمانينيات القرن الماضي لم تكن غالب دور السنيما بمصر بهذه الدرجة من الرفاهية؛ كانت سنيما مترو أكثرها تميزا، حتى ظهرت في بداية التسعينيات عدة دور عرض بنمط جديد، وكأنها تساير التغيير الحادث في كل المجالات، حيث لم يعد الذهاب للسنيما من أجل الاستمتاع بالعرض بالأساس، بل أصبح الهدف الأساسي الخروج لمكان لطيف يتميز بالفخامة والإبهار.
أذكر أن دور سنيما كانت في غاية البساطة… مجرد شاشة عرض كبيرة وصالة عرض واسعة ومقاعد مثبتة أو حرة تحركها أينما تشاء… وكانت تكلفة الذهاب للسنيما قليلة للغاية، وكان الفارق بين واحدة وغيرها يتحدد حسب جودة الصوت وكذلك الصورة على شاشة العرض. وبشكل عام، الهدف هو تقييم موضوع العمل وليس ما يحيط به من هالات بصرية. ففي موضوعنا السنيما؛ كان تقييم العمل الفني وجودة عرضه هي الأساس، ولم تكن البيئة المحيطة بها لها تأثير في تقييم العمل.
تغيرت الأحوال… ليس في السينما فقط: ولكن في كل أمور الحياة تقريبا، ولم يعد أي موضوع مهما بدرجة الصورة المصاحبة له، فقد تحولت الصورة المصاحبة من تابع أصبح لصيقا بالموضوع تزداد أهميته يوما بعد يوم، حتى أزاح كل شيء وتفردت تلك الصورة المصنوعة بالمشهد، بل وأصبحت تلك الصورة المصنوعة تمثل الموضوع وتنحيه تماما؛ فلم تعد السنيما مهمة إلا بقدر فخامة دار العرض، كما لم يعد الزواج علاقة إنسانية بقدر ما هو صناعة لصورة حفل الزفاف وأثاث المنزل وزينة العروس.. تحولت الأمور التابعة عديمة القيمة إلى كل شيء وأزاحت جانبا أصل الأمر.
لم يحدث ذلك في أمورنا الشخصية فحسب، فقد تحول إلى اتجاه عام؛ فالقوات المسلحة (وأصل موضوعها هو الحفاظ على حدود مصر) أصبحت تقوم بما يجب عليها من خلال الصورة فقط،وقد رسخت في المجال العام لكل المجتمع هذا النمط؛ حيث أصبحت الصورة (مجرد الصورة) كافية لكي تغني عن الموضوع.
فلا مشكلة أن نبيع الأرض وتقتل الشعب، ولكن الصورة تقول إنك تحمل السلاح في الصحراء على الحدود، والأغنية المصاحبة تقول إنك تدافع عن الأرض، والصورة الثالثة تقول إنك لا تقتل الشعب؛ بل تنحني حتى تصعد سيدة مسنة على ظهرك من الشعب. إذن كل شيء بخير ما دامت الصورة جيدة.
لقد صُنِعَ تصور لسنيما كبيرة تعرض أكثر الأفلام رداءة، ولكنها صور جذابة بألوان جريئة. والمشكلة أن الجميع يجري وراء الصور لتقييمها والنزاع حولها، والكل يدرك في النهاية أنها مجرد صور والبعض يدرك زيفها، ولكن لا زال الكثير يجادل حولها، يبدو أنهم لم يذهبوا لسنيمات الثمانينيات.
تدور في مصر هذه الأيام ما يسمونها انتخابات الرئاسة، وهي بالتأكيد تشبه دور السنيما في التسعينات، سنيما فخمة ولا يهم ما بداخلها، لا يهم إن كانت انتخابات حقيقية أم لا؛ بل المهم أن تصنع الصورة. والحقيقة أن هناك تطورا كبيرا في القدرة على هذا العمل؛ فتوقيتات الدفع ببعض الإجراءات تدعو للتقدير، ولكنها للأسف كلها في مساحات مضللة ليست صحيحة، ولأجل ترسيخ الخداع والبعد عن أصل الأمور.
وهذا النمط ليس مقتصرا على النظام الحاكم؛ فقد استطاع جر الجميع إليه في سجالات الحشد والحشد المضاد قبل الانقلاب العسكري، وسحب الجميع من المكان الصحيح للصراع ثم تفرد بالمكان الصحيح وحده. ولا زال الكثير يصر على الخوض في هذه المساحة الزائفة، ولم تثنهم أحداث الخمس سنوات السابقة عن ذلك؛ بل هناك إصرار على متابعة الصورة والابتعاد عن أصل الموضع منذ ذلك الحين.
مصر بها كتلة جاهزة دائما لصناعة مشهد ما؛ سواء مشهد 3 تموز/ يوليو أو مشهد انتخابات 2014 أو 2018 وستفعل ذلك في 2022، لذلك فاستمرار الإصرار على التركيز على هذه الكتلة هو جزء من خداع الذات وخداع الجماهير؛ باقي الملايين المئة يحتاجون إلى شيء آخر غير متابعة صور راقصات الشوارع والمرضى القادمين على سيارات الإسعاف للإدلاء بأصواتهم، والجنود الحاملين للمواطنين، والجنود المستلقين على بطونهم ليسير على ظهورهم الشعب، وإعلان سيطرة النظام على الموظفين بإجبارهم على الذهاب للجان.. فكل تلك الصور داخل هذه الكتلة الجاهزة والتي لن تختفي أو تنتهي.
لذلك، فيجب تغيير نمط الخطاب الإعلامي لمن يمتلك منصات إعلامية؛ فالاعتراض على الإجراء الانتخابي ومتابعة الحدث شديدة الأهمية، ولكن لماذا التركيز على الصور التي يريد النظام إظهارها؟ هناك خطأ كبير عندما يظن المسؤولون عن إعلام الثورة أن النظام الحاكم يهتم بغير كتلته المصنوعة، فهو لا يعير انتباهه تماما لغيرهم. ونحن أيضا بطريقة عرضنا هذه نخاطب أيضا نفس الشريحة، والنظام لا يهتم بحقيقة أعداد الناخبين أو غيرها من المظاهر الانتخابية الحقيقية، فهو قادر على إعلان ما يشاء من أرقام؛ ما يهمه هي الصور التي أشرت إليها بالأعلى، ونحن نساعد في نشر هذه الصور معه.
لا زالت الأزمة في حصارنا داخل المساحة التي دفعنا إليها منذ كانون الثاني/ يناير 2011، وهي صراع الصور والصور المضادة، وكانت بين كتلتين رئيسيتين. ربما يكون ذلك مفهوما في تلك الفترة. أما بعد تفتيت إحدى الكتلتين وحصارها وترويعها، فإن الاستمرار في ذلك هو تحقيق انتصار مجاني بلا جهد للطرف الآخر، وربما بما نقوم به نساعده دون أن ندري في نشر ما يريده للقطاع الذي يريده. فنحن لم نعد نمتلك صناعة الصورة نظرا للبطش الأمني الكبير، ولا زلنا نراوح مكاننا في الذهاب إلى أصل الموضوع، مما يجعل كل عملنا نشر ما يريده في إطار نقده والسخرية منه، وما يعلمه الجميع أن نقد الصورة والسخرية منها ربما تكون أحد وسائل الدعاية في ظروف معينة.
لذلك يبدو أننا بحاجة إلى الخروج من هذا المربع، ليس سهلا بالتأكيد؛ حيث يحتاج أولا إلى قرار بحتمية توجيه الخطاب للشعب بعيدا عن كتلة الانقلاب الجاهزة، وهذا يحتاج إلى تغيير في عقيدة البحث عن حل لأزمة مصر المستحكمة ونقل مكان الحل من مساحة الخمسة عشر مليون “كتلة الانقلاب الموجودة” إلى مساحة الخمسة والثمانين مليونا، وهي مساحة الشعب.
سيختلف الهدف ويختلف الخطاب، وربما في تلك اللحظة يتحول الإعلام إلى إعلام ثوري حقا، ويترك سينما التسعينيات، وهي السنيما “الأونطة”، ويتحرك نحو سينما الثمانينيات؛ سينما الشعب والموضوع.