في مقولة شهيرة لكيسنجر، يطلق عليها “معادلة كيسنجر”: “مصر يجب أن تكون كالإسفنجة، تبقى طافية دون أن تغرق؛ حجمها كبير ولكن لا وزن لها”. لم أستطع توثيق تلك العبارة الشهيرة المنسوبة له، ولكن على أية حال كل ما يدور حولنا من شواهد تشير إلى صحة العبارة، بصرف النظر عن صحة نسبتها لكيسنجر.
ليس كيسنجر فقط هو من يريد ذلك، بل أيضا الكثير حتى من داخل مصر ممن ينتمون إلى الطبقة الحاكمة أو المتطلعين إلى الانضمام إليها أو التمتع ببريقها. فمن الأكيد أن التعامل مع جسم كبير الحجم ولكنه ضعيف مهترئ كالإسفنجة الطافية؛ أفضل بكثير من التعامل مع جسم قوي ثقيل يحتاج لمهارات في القيادة ومجموعة من القيم؛ لا يمتلكها سواء العسكر أو المتطلعون.
مصر في صراع بين ثلاثة نماذج للحكم: الأول يمثله العسكر، والثاني
تمثله النخب المصرية المنفصلة عن مجتمعها، والثالث يمثل الشعب
إن مصر في صراع منذ زمن طويل، ربما قبل انقلاب يوليو الأول في عام 1952، بين ثلاثة نماذج للحكم: الأول يمثله العسكر، وهم ذراع القوة لوكلاء الاحتلال الغربي، والثاني تمثله النخب المصرية المنفصلة عن مجتمعها وهويته وطموحاته، ويمكن تسميتها بالذراع الأيديولوجي للاحتلال الغربي، ثم النموذج الثالث، وهو نموذج متحرر من عمالة النموذجين الآخرين، ويمثل الشعب المصري.
وقد دخل ممثلو النماذج الثلاثة في معارك طويلة على مدى تاريخ مصر. وأحد أكبر المعارك وأعمقها هي المعركة الممتدة خلال السنوات العشر السابقة قبيل موجة 25 يناير الثورية. ويمكن ربط النماذج الثلاثة بثلاثة تواريخ شهيرة، لتقريب الصورة. فالمشروع الأول العسكري هو مشروع انقلاب 3 تموز/ يوليو، والثاني هو مشروع النخب (الذراع الثاني للاستعمار) وحاولت في 30 حزيران/ يونيو فرض مشروعها الذي لا يختلف كثيرا عن مشروع العسكر، والثالث وهو مشروع تحرير مصر، ويمكن وصفه بـ25 يناير.
إذا هي ثلاثة تواريخ تعبر عن ثلاثة مشروعات ونماذج مختلفة للحكم، اثنان منها في مساحة بعيدة عن الشعب والثالث ينتمي إليه، وما حدث خلال السنوات الماضية ربما يؤكد ذلك، فلم تتشكل كتلة 30 يونيو إلا لخلاف أيديولوجي مع السلطة الحاكمة، ولم يتوحد الذراعان (ذراع القوة وذراع الأيديولوجي) في مواجهة مشروع تحرير مصر (25 يناير) إلا لأنهما كليهما لا ينتميان لهذا الشعب.
أي صراع يبدو بين مشروعي 30 يونيو و3 يوليو؛ هو صراع ليس
من أجل مصر ولا شعبها، ولكنه صراع لخلاف على توزيع الغنائم
وتجب الإشارة إلى أن أي صراع يبدو بين مشروعي 30 يونيو و3 يوليو؛ هو صراع ليس من أجل مصر ولا شعبها، ولكنه صراع لخلاف على توزيع غنائم الانتصار على الشعب المصري، سواء كانت في مساحة السلطة أو الثروة. لذلك، فأي طعن من أحدهما في الآخر لا يعني على الإطلاق أن تغييرا ما حدث، وأن من يعارض النظام قد أصبح منتميا لمشروع ثورة يناير.
إن الخطأ، وربما الخلط – سواء كان متعمدا أم بحسن نية – يأتي من اعتبار أن كل من يعادي العسكر ينتمي مباشرة لمشروع الثورة، إلا أن هذا خطأ قاتل، وعدم افتراض وجود مشروع ثالث (30 يونيو مشروع نخبوي) يثير الريبة؛ لأن استمرار تجاهله أصبح غير منطقي بعد كل ما حدث.
هناك محاولات متعددة وعميقة ومتتالية لدمج مشروعي
30 يونيو و25 يناير؛ بحجة الاصطفاف ضد مشروع 3 يوليو
وهناك محاولات متعددة وعميقة ومتتالية لدمج مشروعي 30 يونيو و25 يناير؛ بحجة الاصطفاف ضد مشروع 3 يوليو (العسكر)، إلا أن تجاهل الارتباط الجيني بين مشروع النخب والمشروع العسكري وتوحدهم على عزل الشعب عن مساحة السلطة والثروة؛ يفند هذا الطرح الاصطفافي.
وإذا حاولنا التجاوز عن هذا الطرح النظري والتحرك إلى ما تطرحه مجموعات النخب التي تدعو إلى مجابهة مشروع 3 يوليو، فسنجد أن الإجراءات العملية لهذا الطرح لا تتوجه بالأمر إلى مساحة مشروع 25 يناير، بل تتوجه به إلى مساحة مشروع النخب (30 يونيو)، بل إنها تزيد وتكون أكثر وضوحا، وتذهب مباشرة إلى مساحة مشروع 3 يوليو.
الدعوة إلى انتخابات 2018 أو الترويج لها
بأي شكل هي محاولة لحصار ثورة 25 يناير
إن أكثر الأمور وضوحا في هذا الأمر هو ما يحدث الآن، ومحاولة التمهيد لجريمة 2018. إن “انتخابات” 2018 هي صراع بين مشروعين ليس لهما علاقة بمشروع 25 يناير؛ لأن أي عملية انتخابية في وجود نظام سياسي رفض نتائج الانتخابات وقام بانقلاب عليها لا يمكن أن تنتج إلا ما يتوافق مع رؤيته ورغبته، لذلك فإن الدعوة إلى انتخابات 2018 أو الترويج لها بأي شكل هي محاولة لحصار ثورة 25 يناير، المحاصرة أصلا. وقد يكون ذلك مفهوما ممن شارك في 30 يونيو، فهو مشروعه من البداية ومن المنطقي – بل ربما من الطبيعي – أن يدافع عنه، وهو كما أرى أكثر اتساقا مع نفسه ممن كان يدعي أنه منتم لمشروع 25 يناير ثم تحرك فجأة إلى مشروع 30 يونيو.
نحن نسمع الآن محاولات لدعم مرشح آخر في جريمة انتخابات 2018، والعجيب أن أسماء المرشحين المتداولة هي تنتمي حصرا لمشروعين أثبتا بالأدلة العملية وببحر الدماء أنهما معاديان للشعب المصري. ولذلك، فالدخول في هذه المساحة من أي أحد هي إثبات لا يقل وضوحا عن المشاركة في الانقلاب العسكري والمذابح؛ على خيانة ثورة يناير.
نأتي لنقطة هامة، وهي ادعاء المزايدة والفشل والأمنيات الكاذبة ضد القوى التي لا زالت ترفض أي عملية سياسية. لن أتحدث عن التاريخ وأن كل ما يحدث هو طبيعي، وعلى العكس، أرى أن التطور الحادث في الحالة المصرية تطور إيجابي في مسار تحرير مصر، وربما أسرع من المتوقع.
المحاولات لحل مشكلة العسكر بكارثة انتخابات 2018
هي محاولة أخيرة لإنقاذهم وإنقاذ مشروع 30 يونيو
ولن أتحدث عن التجارب المشابهة، وما عانت منه من حصار وضغوط، وعن أن ست أو سبع سنوات فترة قصيرة جدا في عمر الثورات الكبرى، ولكنني سأتحدث عن نقطة مركزية أخلاقية: إذا كنت لا تستطيع المقاومة وترى الفشل محيطا بكل شيء؛ فلا داعي أن تُلبس هذا الفشل عباءة النجاح، فقد يكون من الأخلاقي والإنساني أن تنسحب تماما من المشهد بدون طمس الحقائق، ولتترك الأجيال القادمة تتصرف طبقا لحقائق وظروف لم يتم طمسها. أما ما يتردد من أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، ونحن نتحرك في إطار المتاح.. فهذا جيد، أعلن عن ذلك واذكر أن ما يتم الآن ليس له علاقة بالثورة، وأن الجماهير لها حق الاختيار.
لا بد من الفصل بين تلك النماذج الثلاثة (25 يناير، 30 يونيو، 3 يوليو)، والخلط بينها هو خلط ليس بنية حسنة بالتأكيد، والمزج بين 25 يناير و30 يونيو هو تدمير للثورة التي لا أزال أرى أن الموجة الثورة الثانية لها ستكون كاسحة، وأن المحاولات المحمومة لحل مشكلة العسكر بكارثة انتخابات 2018 هي محاولة أخيرة لإنقاذهم وإنقاذ مشروع 30 يونيو أيضا؛ من الانسحاق الكامل تحت أحذية الشعب المصري.
لذلك؛ فعلى كل منا تحديد أين سيكون، ولينظر كل منا أين يضع قدميه.