هناك فارق بين طبيعة الصراع المركزي في المنطقة وبين المعركة المركزية الواجبة، ومن الضروري تحديد طبيعة الصراع وتحديد طرفيه؛ قبل الخوص في توصيف المعركة وتحديد أطراف تلك المعركة. فالصراع المركزي منذ ما يقرب من مئة عام هو الصراع مع الصهاينة بكل أشكالهم، وهذا الصراع أنتج عدة معارك أرى أنها ليست ذات الأولوية الكبرى في الصراع، حيث قامت عدة حروب داخل الإقليم كلها كانت في المسار الخاطئ، وربما حتى لم يكن أغلبها إيجابيا، بل منها ما زاد من سيطرة المشروع الصهيوني على المنطقة.
إن إدراك هذا الاختلاف هو حتمي من أجل الانتصار في صراعنا المركزي، وتحديد المعارك الصحيحة لإدارة الصراع هو النقطة المهمة في هذه الفترة؛ حتى لا نسحب إلى معارك تستنزف أوقاتنا وقدراتنا المحدودة في خوض معارك أشبه بطواحين الهواء، فجل اهتمام النظم الحاكمة هي الانحراف بوجهة المعركة الرئيسية إلى مساحة أخرى، وربما يدفع البعض منهم في مسار معركة طواحين الهواء. فقد تكون هي الأفضل للمشروع الصهيوني المسيطر الآن على المنطقة، وهو أفضل أيضا للمشروع الإيراني التوسعي، حيث بقاء وضع الأنظمة العربية على حالها أصبح حائط صد للدفاع عن المشروع الصهيوني، كما أن بقاء تلك الأنظمة على حالها فرصة ذهبية للمشروع الإيراني للتوغل والسيطرة؛ لأنه مشروع فكري واضح ومحدد ومعاد للصهاينة، ليس بالضرورة بدافع ديني كما يقولون، ولكن بدافع الصراع الاستراتيجي على المنطقة، والتي ربما تنحصر بينهما مرحليا، سواء كانت هي الأطراف الحقيقة أو الأطراف بالإنابة عن غيرهم (مع شكي في ذلك). ونتيجة للعمالة المباشرة المعلنة من النظم الحاكمة العربية للصهاينة، يمكن للمشروع الإيراني التوغل داخل المجتمع العربي المعادي للصهاينة، والذي أوضحت الأحداث والتطورات أن هذا العداء غير قابل للتفتيت في نطاق واسع من شعوب الأمة.
نعود ونوضح أن الصراع الرئيسي هو الصراع الشامل مع المشروع الصهيوني، إلا أن المعركة الرئيسية مع الأنظمة العربية جميعها، والتي لم تعد تخفي وجهها في دعمها للمشروع الصهيوني، وفي غياب قوى أخرى، سواء سياسية أو اجتماعية تتبنى مشروعا تحرريا عربيا قادرا على حماية هوية ومقدرات الأمة، يصبح وضعنا في غاية السوء، وربما هو كذلك الآن. ولهذا، فإن المعركة الرئيسية الآن، والتي تخدم الصراع المركزي هي المعركة بين الشعوب من جهة والأنظمة العربية العلنية الخيانة من جهة أخرى، ومحاولات سحب خط المعركة الرئيسية إلى فلسطين، هي محاولة وضع عربة أمام الحصان، فهذا خلط متعمد ومراوغ بين الصراع المركزي والمعركة المركزية الواجبة، فلن يمكننا أبدا فعل شيء في فلسطين وظهورنا ملتصقة بفوهات بنادق ما تسمى جيوشنا.
وقد أثبت التاريخ القريب والأحداث المعاصرة؛ أن تلك الجيوش جميعها هي أحد أدوات المشروع الصهيوني، وأحد أهم القوى التي ساهمت في تثبيته منذ بداياته منذ مئة عام. ويمكن للمتابع العودة إلى أحداث الحرب العالمية الأولى، وحرب 48 ومفاوضات وقف إطلاق النار بعد حرب 73 وكامب ديفيد، وغيرها من أحداث؛ ليرى كيف كانت الأنظمة والجيوش العربية أدوات للمشروع الصهيوني. ومع قدر كبير من الثقة، يمكن عدم استثناء أحد من ذلك.
إن تحرير القدس وفلسطين من قبضة الصهاينة؛ لن يبدأ إلا بتحرير مصر والشام والعراق وجزيرة العرب من قبضة رجال المشروع الصهيوني المسيطرة والمتوغلة. ويجب الإيمان بأن هذه هي المعركة الرئيسية والمركزية في الصراع الكبير مع الصهاينة، ويجب إدراك أيضا أن هذا التحديد للمعركة الصحيحة هو المانع الأكبر من التوغل الإيراني في المنطقة، والذي سيزداد حتما مع الإعلانات الكرنفالية عن ضرورة التطبيع مع إسرائيل، ومع ازدياد حملات التضليل المتصاعد حول طبيعة القدس والحقوق التاريخية للصهاينة.
وما حدث في الأيام الأخيرة من أنظمة تعلن عمالتها للمشروع الصهيوني بالسماح بالتظاهر ضد إعلان القدس عاصمة إسرائيل؛ يعيدنا إلى حالة ما قبل ثورات 2011، وما تلاها من توجيه بوصلة المعركة المركزية إلى مسار خاطئ. ولا يجب علينا الاندفاع في هذا المسار.. بالتأكيد خروج الملايين في الأمة العربية ضد القرار عمل جيد، ولكن التعامل معه من أنظمة تعلن خيانتها قد يشير أن ثمة رغبة ما من السلطة نفسها لإعادة وجهة المعركة إلى ما قبل 2011، وهذا خطر بالغ ليس فقط على الثورات العربية التي تعاني أصلا من حالة كمون وربما تراجع، ولكنه خطر بالغ على قضية تحرير فلسطين والقدس نفسها.
فلا يمكن لأي شعب أن يتظاهر طوال الوقت، كما أن التظاهر هو أداة للتعبير عن الرأي وليست أداة تغيير إلا في مجتمعات حرة. وهذا أيضا محل شك، ولكنه – على أية حال – قطعا غير متواجد في بلادنا. إن ما يمكن حقا أن يحرر فلسطين هو المقاومة الشاملة الحاسمة في كل العواصم المذكورة وغيرها، بما فيها القدس ورام الله، وحتى حيفا وعكا، وذلك لانتزاع المتصهينين وأذنابهم التي تملأ مراكز الحكم في بلادنا، وعند تلك النقطة ستتحرر فلسطين وتعود القدس عربية إسلامية.
السقوط في دائرة ما قبل 2011 هو الحلم الأكبر للصهاينة، وهو ربما يكون حالة من محاولة إظهار الغضب الكامن ورغبة في التعبير عن الوجود والبقاء. قد يكون ذلك مفيدا في حالات أخرى، وليست حالتنا المعاصرة، والتي أراها ليست إلا صراعا وجوديا، وصراعا من أجل البقاء، لذلك فأي انحراف في بوصلة الصراع، وبالتالي المعركة المركزية، هو بالتأكيد في صالح العدو الذي أصبح قابعا في القاهرة وبغداد ودمشق والرياض، وما زال يحاول في فلسطين.