لم نكن نحتاج للأحداث المتسارعة في منطقة الخليج حتى نعلم إلى أي مكان نحن ذاهبون، فقد تدحرجت كرة الثلج منذ عشرات السنين، ولكننا لم نكن نعبأ بها أو كنا نظن أنها لن تبتلعنا. حدث ذلك عندما تحالفت الأنظمة العربية البائسة لتدمير العراق، وقررت حق العم سام في أن يحمي أرضها ويحررها؛ في تلك اللحظة قد أعلنَّا أن كرة الثلج لم يعد من الممكن إيقافها.
لقد أكدت أحداث العقد الأخير من القرن السابق أننا في طريق الهاوية السحيقة، ولأسباب كثيرة؛ كانت الغالبية تعتقد أنها أزمة حادة قابلة للتجاوز، إلا أنها لم تكن كذلك، وأثبتت السنوات العشرين التالية أنها أكثر تعقيدا من مجرد أزمة، وأنها خلل بنيوي غير قابل للإصلاح في كل الأنظمة العربية التي بنيت أصلا على خلل كبير مبدئي؛ يحمل من التناقضات مع المجتمعات ما يجعل من المستحيل تكوين بناء صحيح. ووصلنا الآن إلى الوقت الذي ينبغي علينا أن نواجه ما تركناه يكبر دون وعي، أو دون رغبة في الوعي. ولا أعلم أهي صدفة أم رسالة قدرية؛ أن تتوافق الذكرى المئوية لسايكس بيكو ووعد بلفور مع ما يحدث في جزيرة العرب من صراع على رأس السلطة لا يبدو أنه سينتهي، كما توافق أيضا منذ أشهر ذكرى مأساة حرب 67 مع حصار دولة قطر.. صدف متعددة ولكنها تحمل رسائل بالتأكيد.
التطورات منذ حصار العراق وغزوه، ثم سقوط بغداد.. كلها تشير إلى أننا فقدنا السيطرة على كل المسار، وأن الربيع العربي كان محاولة قوية للسيطرة على معدلات السقوط
إن التطورات التي حدثت منذ حصار العراق وغزوه، ثم سقوط بغداد.. كلها تشير إلى أننا فقدنا السيطرة على كل المسار، وأن محاولة الربيع العربي التي انقضت عليها الثورة المضادة كانت محاولة قوية للسيطرة على معدلات السقوط في الهاوية، ومحاولة استعادة المسار الصحيح الذي فقدناه منذ قرون – ربما – إلا أن الكثير من العوامل أدت إلى تراجع الموجة الأولى لها. وبعد استعادة الثورات المضادة للسلطة في المنطقة، ولأسباب ربما لا نعلمها، تندفع جميعها بكل قوة للسقوط بكل النظم في أعمق نقاط الهاوية، وكأن هناك سباقا محموما في السقوط، وكأن هناك شيئا ما ينبغي أن يحدث بعد ذلك السقوط الذي يجب أن يكون مروعا. ولا تتحرك وحدها كأنظمة في رحلة السقوط، ولكنها تسحب معها الجميع.. كل الموجودين على أراضيها، وكل من يرتبط بعلاقات معهم لا يمكنه تجاهلها، وأصبحت المنطقة أشبه بالموبوءة، كل ما فيها يجري نحو حتفه.
وعلى مدى العقود الماضية، كانت كل محاولات القوى المجتمعية المنتمية لهذه الأمة أن توقف هذا الانهيار، ولم تكن تعتقد – هكذا أرى – بحجم كرة الثلج الذي لم تعد ممكنة مواجهته، وكانت الثورة، أو حتى التغيير، هدفه الرئيسي هو الحماية من السقوط, أما الآن؛ فلا أعتقد أن ذلك أصبح مناسبا، وأن الاستمرار في هذه الاستراتيجية لم يعد مجديا ويعتبر انتحارا شاملا.
من الضروري أن يكون أصل التفكير الثوري هو كيفية التعامل مع الفوضى العارمة القادمة
لذلك فإن الفترة القادمة، وعلى الأقل لحماية القوى الفاعلة، فمن الضروري أن يكون الأصل في التفكير الثوري (ليس فقط في الدول التي حدثت بها الموجة الأولى، ولكن في كافة دول المنطقة التي تتسارع في السقوط)؛ هو كيفية التعامل مع الفوضى العارمة القادمة. ولذلك، فإن إدارة الفوضى لا بد أن تكون هي الشغل الشاغل لكل القوى المنتمية للمجتمع، وليس منعها، فكل المؤشرات تقول إنَّ هذا المنع قد أصبح مستحيلا.
قد يذهب أحد إلى أن الأمر ليس كذلك، وأن صراعات السلطة التي تحدث في مصر وجزيرة العرب وغيرهما؛ طبيعية وتتكرر عبر تاريخنا، ولذلك فإن الاستنتاج بحتمية الفوضى واستحالة منعها هو درب من التشاؤم وتبسيط مخل لواقع معقد. ربما يكون ذلك رأيا وجيها؛ ولكن كل الصراعات التي حدثت عبر التاريخ، ليس في منطقتنا فقط، ليست كالصراع الحالي. فحتى مع تشابه الإجراءات شبه المتطابق، إلا أن حجم الظلم والفساد والاستبداد وتأثيره الكبير على قطاعات واسعة من المجتمع، و اتساع الفجوة الاقتصادية الطبقية بين الطبقة الحاكمة والمجتمع؛ يصبح من الصعب، بل من المستحيل، الحفاظ على التوازن أو حتى الاستقرار الزائف. كما أن المسار العام لا ينبئ بتحسن في أي من تلك الملفات، بل كل المؤشرات تؤكد أنها ستزداد سوءا.
لذلك، فإن محاولة مقاربة الواقع الحالي بحالات مشابهة – إجرائيا – في الماضي؛ أرى أنها ليست صحيحة، وأن ذلك ربما يكون من مسارات التفكير بالتمني التي أوردتنا تلك المهالك.
والأفضل والأكثر حكمة أن يبدأ كل المؤمنين بحق هذه الأمة في الحياة أن يعرفوا كيف يديرون الأمور عندما تأتي الفوضى
إنها دعوة لمن يحاول إنقاذ تلك الشعوب، لا ترهق نفسك كثيرا في محاولة حماية الأنظمة الحاكمة ومؤسساتها من السقوط فهي قد أصبحت تمتلك تلك الرغبة الذاتية التي لا يمكن منعها، والأفضل والأكثر حكمة أن يبدأ كل المؤمنين بحق هذه الأمة في الحياة أن يعرفوا كيف يديرون الأمور عندما تأتي الفوضى.
إن الثورات تنجح عندما تستطيع السيطرة الكاملة – ولو نسبيا – على السلطة والشارع. وعلى الثوار إدراك أن المعارك التي لا تحدد وقتها ومكانها؛ في الغالب ستخسرها، وأن صناعة الفوضى هي المهارة التي يتقنها النظام الاستبدادي، والتي نحاول منعها طول الوقت، ولكن المعركة القادمة ستكون على إدارتها والسيطرة عليها، وهذا ما كنا دائما نخشاه، وعلينا ألا نخشى ذلك ثانية.