تمثل الذاكرة الجمعية لأي شعب بعدة مواقف وأحداث وشخصيات؛ وهذه الأمور قادرة على تشكيل الوعي العام للمجتمع. والشخصيات هي الأكثر تأثيرا – كما أرى – في هذا المجال، لذلك إعادة تركيب الأحداث المرتبطة بشخصيات معينة أو تحريفها؛ لا يمكن التعامل معها بنية حسنة في ما يتعلق بالشخصيات الشهيرة، وخاصة عندما تكون المعلومات واضحة ومتاحة. ويمكن اعتبار التشويه الحادث المتعمد في بناء الأحداث المرتبطة بشخصية ما، محاولة لتشويه الشخصية، أو محاولة لتشكيل وعي مشوه إذا كان تشويه الشخصية نفسها مستحيلا.
إن أدهم الشرقاوي، وما ارتبط به من أحداث؛ واحد من تلك النماذج الواضحة على كيفية تشويه الحقائق المرتبطة بشخص ما لترسيخ أفكار مجتمعية ليست صحيحة. وبالرغم من وجود وثائق يمتلكها النظام، ووجود من عايشوا الأحداث حتى عقود قليلة، إلا أن تعمد التشويه ربما لا يمكن إخفاؤه.
أدهم الشرقاوي أحد الأبطال العظام في تاريخ مقاومة المصريين للاستبداد والاحتلال، وأحد النماذج التي يجب على شباب مصر الآن الاقتداء بها. لقد كان أدهم الشرقاوي من عائلة كبيرة، تمتلك الكثير من الأراضي والعقارات، ولكنه كان مؤمنا بقضية العدالة والحرية التي تفتقدها مصر على مدى تاريخها الحديث. وتجاوزت شهرة أدهم محيط قريته ومدينته، واتسعت لتملأ مساحات واسعة من مصر. كما أن أدهم كان محاطا برجال يؤمنون به ويساندونه ويحمونه. ومن الأمور الغريبة، أن أكثر المقربين إليه، وأكثر من دافع عنه وقام بحمايته، وهو الشخصية الشهيرة بدران، تم تشويهه، وأصبح هو الخائن الذي وشى برفيق كفاحه أدهم، مع أن الوثائق الموجودة لدى النظام والمتاحة لدى الجميع والمؤرخين المنتمين لعائلة الشرقاوي، ومنهم الدكتورة عبلة سلطان، يعرفون ما هي الحقيقة.
الحقيقة أن أحد المخبرين، واسمه محمد خليل، هو من قام بالوشاية بأدهم، وقد قام بعض الوطنيين بقتله فيما بعد، والسؤال: لماذا أصرت كل مصادر صناعة الوعي على تجنب الحديث حول ذلك الأمر؟ ولماذا أصرت جميعها على تشويه الصديق المقرب من أدهم؟
قبل محاولة الإجابة، ينبغي أن نتعرف على منظومة المقاومة التي ساعدت أدهم الشرقاوي وغيره في تلك الفترة؛ على البقاء والفعل المقاوم الإيجابي.. استطاع الاحتلال والظلم الفاحش بناء حالة من الغضب الواسعة داخل قطاعات مجتمعية كبيرة، ما أدى إلى وجود نقاط كثيرة غير مترابطة تنظيميا بشكل هرمي؛ قادرة على المساعدة في بناء منظومة مقاومة، كما استطاعت تكوين شبكة علاقات آمنة قادرة على التواصل والتعاون. وهذا ظهر في قدرة عبد الله النديم على الاختفاء لمدة طويلة داخل مصر بعد الاحتلال الإنجليزي دون كشفه، حتى قام مخبر أيضا بالوشاية به.
فعل أدهم ذلك بشكل أكثر قوة، حيث لم يكن يختبئ، ولكن كان يستفيد من تلك الشبكة الواسعة في أعمال المقاومة ضد الاحتلال الإنجليزي وأعوانه. ومن أكبر المشاكل التي تواجه عمل تلك الشبكات، وربط العلاقات والتحرك بحرية، هي شبكة المخبرين النظامية التي تعتبر سرطانا مدمرا في المجتمع؛ عندما تكون تابعة لسلطة احتلال أو سلطة احتلال بالوكالة أو استبداد.
ولذلك، فإن تفتيت شبكة المخبرين النظاميين يجعل العمل أكثر سهولة وأكثر أمنا، كما أن محاولة بناء شبكات المقاومة في وجود شبكات قوية من المخبرين المتوغلين داخل بنية المجتمع هو أقرب للانتحار. وهذا ما فعله مايكل كولنز في إيرلندا، أثناء مقاومة الاحتلال الإنجليزي، فقد كان أحد أهم أهدافه هو القضاء التام على شبكة الجواسيس والمخبرين التابعين للإنجليز. وقد حقق، بعد تفتيتها، إعماء كاملا لسلطة الاحتلال عما يدور على الأرض؛ لأن سلطات الاحتلال لا ترى إلا من خلال تلك العيون الخائنة. فعندما تقلع تلك العيون، تفقد الكثير من قدراتها على تفتيت شبكات المقاومة.
صحيح أن الأمور مختلفة الآن، ولكن لا زال الجواسيس هم الأكثر خطورة على منظومة المقاومة، سواء كانت الجواسيس البشرية أو الالكترونية؛ إلا أن الفكرة العامة واحدة، وهي ضرورة حجب قدرة النظام على الرؤية عن طريق تفتيت أدواتها. ويؤكد ما حدث مع عبد الله النديم ومع أدهم الشرقاوي ذلك؛ بل أن كل الأحداث الجارية في مصر وغيرها تؤكد أن أكبر الأخطار على أي محاولات للتحرر هي شبكات الجواسيس والبلطجية المتعاونين مع النظام الاستبدادي.
ولإدراك النظام أهمية تلك الشبكات لوجوده، وأن غيابها أو إضعافها هو أحد أقوى الضربات القاتلة له ولوجوده، ولقدرته على فرض السيطرة وحصار المقاومة؛ فهو يحميها ويدعمها دائما، بل ويعاقب في حالات جنون السلطة والسيطرة من يرفض التعاون في منظومته الجاسوسية، وربما يكون العقاب الانتقامي بحجم قتل المصلين في المساجد.
وينشر النظام كذلك في الوعي الجمعي أفكارا خاطئة حول أن الخيانة تأتي دائما من داخلك، ربما يحدث ذلك أحيانا؛ إلا أن الحقيقة تقول إن محمد خليل الجاسوس هو من وشى بأدهم، وليس صديقه ورفيق كفاحه بدران. ولكن الرغبة في تفتيت شبكات المقاومة بالوعي الزائف بأنها كلها ملوثة بالخيانة، والرغبة في إبعاد فكرة مدى خطورة شبكة المخبرين والجواسيس عن ذهن المجتمع، وتأثيرهم المدمر على وجوده، تجعل تغيير وتشويه الحقائق أمرا مفهوما من السلطة وأذرعها القائمة على صناعة الوعي.
إن الخطر قد يكون ممكنا من الرفاق المناضلين، ولكنه حتميا من أمثال محمد خليل، وليس من المنطقي أن تهتم بالممكن على حساب الحتمي في هذا الملف. وقد أفادنا كولنز بماذا يجب علينا، وأفادنا شباب مصريون منذ ما يقرب من ثمانين عاما؛ كيف نحمي شبكات المقاومة.