الانتحار هو قرار شخصي بإنهاء الحياة بأي وسيلة كانت، وهو يحدث في صمت وهدوء كلما كان صراع المنتحر مع نفسه أعلى. والانتحار في الأدب بأشكاله المتعددة والسنيما؛ كان نقطة من أعلى درجات الصراع النفسي غير القابل للحل، ولعدم قدرة الشخص على الاستمرار في هذا الصراع فيقرر قتل نفسه. ومشكلة المنتحر في الغالب مشكلة ذاتية، هي بالطبع ناتجة عن الاحتكاك بالمجتمع؛ لكن في النهاية ينشأ الصراع من أفكاره وقناعاته الخاصة وعدم قدرته على تحملها، مثل جافيير، ضابط فيكتور هوجو في البؤساء، فقد أحس بخيانة لشرفه تماما كأياكس في إلياذة هوميروس؛ الذي انتحر بسيف الشرف معاقبا نفسه على تهوره.
وهذا يعني أن من يقرر الانتحار له مسطرة ما يقيّم بها وله بعض القيم والأفكار التي يلزم بها نفسه، فهذا الانتحار الناتج عن صراع نفسي شخصي لا يقوم به شخص ضعيف أو فاسد. فكما لا يمكن للفقير فقرا مدقعا أن يقوم بثورة، فقط يقوم بها من يعي بفقره، ومن المؤكد أن أكثر من يعي الفقر هو من كان بعيدا عنه ثم سقط فيه، وكذلك ربما لا ينتحر إلا الأقوياء الذين لم يستطيعوا في لحظة ما مواجهة الضعف.
وإذا سلمنا بضرورة الصراع لشخص قوي نفسيا؛ يمتلك قدرا من الضوابط التي تجعله يأخذ هذا القرار الصعب، وإذا سلمنا بأن صاحب القرار قد اقتنع بأن هذا هو البديل الوحيد المناسب، أيضا مع التأكيد على أن قتل النفس مؤكد أنه محرم دينيا بشكل قاطع، فإن ازدياد ظاهرة الانتحار في مصر تحتاج وسط هذه المقدمات إلى تفسير. فسبب الانتحار الغالب هو عدم قدرة هذا الشخص على تحمل الضغوط الاقتصادية الهائلة على قطاع واسع من الشعب المصري في هذه الفترة، وبالتالي فهو يعلم من السبب في هذه الحالة. والمنتحر القوي نفسيا في الصورة النمطية يقوم بالانتحار عقابا لنفسه (سواء اتفقنا معه أم لا على حتمية الانتحار، وعلى وجود بدائل أخلاقية لهذا العمل من نابع ديني)، فلماذا يقوم المصريين بعقاب أنفسهم على جريمة لم يرتكبوها؟ أما الشخص الضعيف فمن الصعب للغاية قيامه باتخاذ قرار الانتحار.
ربما يرى البعض أن هذا تمجيد لمن يفعل ذلك، أو على الأقل التقليل من كونها جريمة ضد القيم والضوابط الدينية.. بالتأكيد من يقوم بذلك الفعل عنده خلل في هذه المفاهيم، ولكنه أيضا – كما أرى – لا ينفي أن هذا القرار لا يأخذه ولا يستطيع القيام به إلا من يمتلك قدرا من القوة حتى لو كانت في المساحة الخاطئة.
الآن، لماذا يقوم فقراء مصر بالانتحار الآن بالرغم من أن الفقر حالة مزمنة في مصر؟ الآن الكثير ممن كانوا فوق خط الفقر النظري تهاووا إلى ما دونه. وقد قال إريك أوفر في كتابه المؤمن الصادق أن من يستطيع الثورة ويريدها ويناضل لتحقيقها؛ هو ذلك الذي سقط في الفقر بعد أن كان بعيدا عنه، إلا أن فقراء مصر الجدد (على الأقل من نشاهدهم ينتحرون) قرروا إنهاء حياتهم بدلا من التمرد على النظام، وهذا أعتقد له بعض الأسباب التي جعلت تكلفة التمرد أعلى من تكلفة الموت، أو بمعنى آخر عند البعض الموت انتحارا أكثر شرفا من التمرد.
أولا: البطش الأمني الكبير: ليس فقط البطش الأمني يعني السجن، فلا مشكلة عند الكثير من المناضلين أو المتمردين على الظلم من أن يقضوا حياتهم أو جزءا منها بالسجن، ولكن المشكلة في التعذيب وانتهاك الأعراض والإذلال والتضييق على الأسر، بل وأحيانا تدمير حياتها.. كل هذه الأمور تجعل تكلفة الموت أقل من التمرد، وقد نجح النظام في نشر تلك الصورة الذهنية مما يرفع من تكلفة المقاومة والتمرد.
ثانيا: القوى الدينية الرسمية: استطاع النظام تأميم المؤسسات الدينية لصالحه وحولها لنموذج كنسي مشابه للعصور الوسطى، فأصبحت المحلل الديني للاستبداد. وهذه القوى تحمل رصيدا كبيرا لدى قطاعات واسعة من المصريين، ربما بدأت في التآكل، إلا ان انهيارها يحتاج إلى وقت وضغط كبيرين، ما يهمنا أن الخطاب الرسمي لها هو داعم للاستبداد وضد التمرد باسم الله والدين، وهذا يحتاج لتفتيت من الجذور.
ثالثا: قوى الإسلام السياسي: لا زالت الكثير من تلك القوى تحاول كبح جماح والحفاظ على المجتمع بشكله ومؤسساته الحالية وتظن أن تكلفة إصلاح تلك المؤسسات أقل من تكلفة الفوضى التي قد تحدث من وجهة نظرهم إذا دفعوا المجتمع للثورة، ومن أحد هذه الإجراءات هو إعادة تعريف الحقوق لكل فرد والتي ينبغي على المجتمع ككل توفيرها، فكيف يمكن أن تمنع شخصا من حماية نفسه من الموت جوعا؟ إن الفكر الإسلامي مليء بهذه الكتابات، وأراها ثورية للغاية، ولكنها بالتأكيد تدفع إلى ما قد لا تريده بعض القوى لأسباب تبدو مجهولة بالنسبة لي، فحتى الآن انتحار الجماهير جوعا لم يجعل تيار الإسلام السياسي يتبنى الخطاب الإسلامي الداعي للتمرد العام رفضا للجوع.
رابعا: القوى البرجوازية التي تطلق على نفسها مدنية: هي الأسوأ على الإطلاق، ولا تريد أي تحرر للمجتمع من القيود التي يفرضها عليه النظام، وتحقق استفادة اجتماعية واقتصادية منها، وهي أكبر أعداء لتغيير النظام الحالي، وأكبر المدافعين عنه حتى لو قالت كلماتها عكس ذلك.
كل هذه العوامل جعلت المصري الفقير أو الذي سقط في الفقر؛ يشعر بالعار من فكرة حقه في الحد الأدنى للحياة بأي وسيلة تسميها كل القوى المذكورة سرقة، وهي مخلة بالشرف، أما الموت جوعا أو تحت عجلات المترو في العقل الجمعي فهو أقل عارا. إن هذا الانتحار القادم من حصار الجوع والتفسيرات الزائفة للشرف ليس ناتجا من صراع نفسي، ولكنه ناتج من قهر نفسي واجتماعي يتحمل مسؤوليته كل من يكبح جماح الجماهير للحصول على حقها، وأن ترويج فكرة أن التمرد والحصول على الحق أكثر شرفا (بل هو الشرف ذاته) من الموت انتحارا عندما يسحقك أحد.
أخشى أن تتطور الأحداث ويبقى كل من يحاصر الجماهير مسؤولا عن دمائها التي تسيل، وربما ستسيل أكثر الأيام القادمة تحت عجلات العربات المحملة بأفكار ظالمة، ويبدو لنا أنها تسيل تحت عجلات القطارات.