تميز الحكم العسكري في مصر بالثأر والدموية تجاه المخالفين والرافضين له وتمثل ذلك في أحكام الإعدام المتتالية والمذابح والقتل بالتعذيب وفي الشوارع وغرف النوم، حيث بدأ بعد أقل من شهر من قيام انقلاب يوليو 1952م بإعدام العامليْن بمصانع نسيج كفر الدوار خميس والبقري، وما يزال هذا النهج مستمرا حتى وقتنا هذا.
اليوم تحل الذكرى السنوية لأول مذبحة جماعية على يد السلطة العسكرية: “مذبحة ليمان طرة” في أول حزيران/ يونيو 1957م حينما أراد المسجونون التظلم من معاملة إدارة السجن لهم وبما تسمح به اللوائح من ضرورة استماع النيابة لشكواهم، لكن بدلا من ذلك داهمتهم قوات الداخلية في محبسهم، وأطلقت عليهم النيران فقتلت 21 منهم وأصابت مثلهم وكانت تجهز ضربا بمؤخرة البنادق على من ظل حيا من المصابين منهم.
وقد أخبرني أحد حراس ليمان طرة أن مدير السجن اتصل بوزير الداخلية وقتها (زكريا محيى الدين) ليطلعه على الوضع ورغبة المحبوسين في استماع النيابة لشكواهم، فقام بدوره بالاتصال برئيس الجمهورية جمال عبد الناصر فكان رده: وماذا تنتظرون؟ واعتبر هذا بمثابة الأمر والتوجيه بقتل المسجونين العزل، وادعت السلطات فيما بعد أنها أخمدت تمردا من المحبوسين، علما بأن نزلاء السجن كانوا يقضون فترات عقوبة حكمت بها عليهم محاكم عسكرية استثنائية ولم يحدث منهم أدنى مقاومة ولا حملوا سلاحا حتى تبرر السلطة العسكرية قتلهم.
لطالما ناشدنا جهات قضائية وحقوقية بفتح التحقيق في مذبحة ليمان طرة والعمل على محاسبة المسئولين عنها أسوة بمذابح مشابهة في أماكن أخرى من العالم، لكن رغم انقضاء ستة عقود على تلك المذبحة لم يحدث لا تحقيق ولا مساءلة، فالسلطة العسكرية التي سلكت الأسلوب الدموي منذ انقلابها تتعمد التغطية على جرائمها، والتي كلها ممارسات قمعية وحشية ضد الإنسانية لا يسقطها التقادم، ويساعدها في ذلك نظام قضائي فاسد يمنحها الحصانة ضد الاستبداد ويمعن في القسوة بالأحكام الجائرة على المعارضين بغية إرضاء العسكريين والرغبة في استمرار المصالح بينهما.
إن تراخي منظمات حقوق الإنسان وتجاهل الأوساط القضائية طوال هذه السنين التحري في هذه الجرائم وما يعقب ذلك من عدم إدانة وعقاب المسئولين عنها لهي نقطة ضعف في المنظومة العالمية لنصرة المظلومين والمضطهدين، فعدم المحاسبة والإفلات من الجزاء يؤدي إلى تكرار الفعل الإجرامي في حق الشعوب والمعارضين، ويشجع على اقتراف المزيد من الجور والطغيان، كذلك فإن جبروت الأنظمة التنفيذية الاستبدادية يطغي في الكثير من الأحيان على رغبات وقرارات جمعيات حقوق الإنسان مما يجعل محاسبة المشتركين في مثل هذه المذابح صعبا بل مستحيلا.
لم تتوقف جرائم ومذابح العسكر في مصر منذ أن ابتدؤوها، وعلى مدى الفترة الزمنية الطويلة لاحتكارهم السلطة أزهقت آلاف الأرواح البريئة إرهابا للشعب وإبقاء لنفوذهم وإشباعا لطمعهم، ولم تكن مذبحة رابعة وأخواتها إلا امتدادا لمذبحة ليمان طرة وغيرها وتكريسا لمبدأ الإفلات من الحساب والعقاب.
وفي غياب النية سواء في التحقيق أو في استنساخ مذابح العسكر فإنا نسأل الله القدير أن ينتقم من الظالمين ويهلك المستبدين، ثم نناشد شعبنا الحر الصامد والمتواجد في الشوارع دون انقطاع أن نضاله وثباته لإسقاط هذا الانقلاب الدموي الفاشي وعودة الشرعية المسلوبة منه ليس فقط أكبر مانع ضد جبروت العسكر وجرائمهم ومذابحهم بل وأيضا تطبيق قوانين المحاسبة والمعاقبة على كل المشتركين والمتورطين في هذه المذابح وأمثالها من الجرائم في حق شعبنا الأبي.