في صباح يوم الأربعاء الثالث والعشرون من شهر تموز/ يوليو عام 1952م، وعلى غير وتيرة برامج الإذاعة المصرية، انتبه المصريون والعالم لصوت الضابط أنور السادات جهوريا متأنيا؛ وهو يقرأ بيان القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية بالانقلاب على نظام الحكم الملكي، ومن وقتها أصبحت مصر غير مصر المعروفة.
مباشرة في أعقاب بيان الانقلاب، ولمدة عدة أيام، كان يُذاع عبر أثير إذاعة مصر نشيد فلسطين بصوت المغني محمد عبد الوهاب والذي يبدأ بمقطع:
أخي جاوز الظالمون المدى فحَق الجهادُ وحَقّ الفدا
وكان الغرض من تكرار إذاعة أغنية فلسطين هو حشد الجماهير وراء حركة الجيش الانقلابية. فلقد كان المصريون يؤمنون بقضية فلسطين كجزء لا يتجزأ من العقيدة، ويرون المسجد الأقصى أحد المقدسات الإسلامية، ويعرفون أن الصهاينة يطمعون في بلادهم ضمن مساحات شاسعة من النيل إلى الفرات، إلى جانب نصرة شعب شقيق يتعرض للإبادة والتشريد.
وكانت حملة الجيوش العربية عام 1948م قد انتهت بقدر كبير من الفشل والهزيمة والخيانة، وأدت إلى احتقان الشعور لدي المصريين والعرب والمسلمين، فكان الترحاب بهذا الانقلاب، بل وقبلته الجماهير كثورة.. ولِمَ لا وقد أجهض ثورة شعبية في طور التكوين كان متوقعا لها أن تتضاءل بجانبها أعتى الثورات!
وبصرف النظر عن عدد “الضباط الأحرار” الذين نفذوا الانقلاب، فإن البكباشي (المقدم) جمال عبد الناصر كان أهم رموزه، وظلّ على رأس السلطة حتى وفاته في عام 1971م.
لم يكتمل عام على قيام الانقلاب إلا وكان عبد الناصر قد تواصل مع موشي شاريت، الذي كان يشغل منصبي رئاسة الوزراء والخارجية للكيان الصهيوني (1953-1955م)، والذي أطاحت به فيما بعد ما يسمى بفضيحة لافون في مصر. وكان شاريت يتواصل مع عبد الناصر من خلال الملحق الثقافي المصري في باريس، وقد أمر عبد الناصر الملحق المصري أن ينقل إليه محتويات التواصل مع شاريت غير مكتوبة، وذلك بالحضور كل مرة من باريس والاختلاء بعبد الناصر والهمس في أذنه مباشرة.
وفي يوم 15 أيار/ مايو 1967م، استيقظ المصريون على خبر حشد الجيش المصري لقواته في سيناء، بعد ورود أنباء عن تحرك قوات الكيان الصهيوني صوب الجبهة السورية. ويومها أصيب المصريون بالصدمة المصحوبة بالمرارة؛ عندما استمعوا إلى طلب رئيس الأركان المصري يطلب من الأمم المتحدة سحب قواتها من مضيق تيران، والتي مكثت فيه 11 عاما تحميه لصالح الصهاينة، في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956م. فخلال تلك السنوات ازدهر الكيان الصهيوني ازدهارا كبيرا، وتحولت قرية أم الرشراش إلى مدينة وميناء إيلات الصهيونية، واكتشف المصريون أن عبد الناصر قد أخفى على الشعب المصري وجود قوات الأمم المتحدة على المضيق حماية لعبور السفن الصهيونية؛ في الوقت الذي يجهر ويصيح أمام شعب مصر بمعاداة الكيان الصهيوني.
ثم إن عبد الناصر بسياساته نحو الجيش وتخوفاته من عبد الحكيم، عامر وإقحام القوات المسلحة سنوات في حرب اليمن، حوّل الجيش إلى ولاءات له أو لعامر، مع التخلص من الضباط الوطنيين الملتزمين، لتكون النتيجة جيشا غير محترف لقتال همّه الثراء وتولي المناصب والاستمتاع بالمميزات، فلم يتحمّل الصمود لسويعات في وجه العدو مرتيْن؛ هُزم فيهما شرّ هزيمة.
بعد وفاة عبد الناصر خلفه القائم مقام (العقيد) أنور السادات، عضو حركة الضباط الأحرار وأحد ضباط الانقلاب، (رغم أنه ليلة تحرك الجيش في القاهرة اصطحب زوجته إلى السينما بغرض النجاة إذا فشل الانقلاب). وعُرفت فترة حكمه بحدثيْن كبيريْن: الأول حرب أكتوبر، والثاني: معاهدة كامب ديفيد.
كان التخطيط لحرب أكتوبر ثم بدايات تنفيذها؛ قمة في حقيقة مهارات القيادات العسكرية المصرية، مما حطّم معنويات العدو وشل قدراته وأداءه، وجعله يطلب العون والمساعدة من كفيله الرئيسي، لكن تدخّل السادات (الذي هو ليس بقائد عسكري ولا بمحنّك سياسي) أدّى إلى خسارة جسيمة وفقدان للمكاسب في أول جولة على موائد التفاوض عند الكيلو 101، مما جعل رئيس الجانب المصري المشير الجمسي يروي في مذكراته أنه بكى حينما منح السادات (مسجلا بذلك خطوة خيانة من الوزن الثقيل) وزير خارجية أمريكا هنري كيسنجر تنازلات في عدد القوات ونوعية المعدات المصرية التي ستتواجد في سيناء، بما لا يتفق إطلاقا مع مهماتها في الدفاع عن شرق البلاد.
وجاءت مباحثات كامب ديفيد حينما شدّ السادات إليه الرحال؛ بصحبة بطرس غالي ووزير خارجية تم اختياره من بقية رضيت بالوضع الجديد، هو محمد إبراهيم كامل، (بعد استقالة وزير خارجية مصر ورفض مصري وطني آخر المنصب احتجاجا على زيارة السادات للكيان الصهيوني). وكان كامل يعلم جيدا أنه ذاهب يشارك السادات في خيانة وطنه، إلا أنه بعد وصوله إلى هناك رأى من سير المفاوضات أن حجم الخيانة يفوق كل تصوّر. وكما قال في مذكراته، فإنه أراد أن ينسحب مستقيلا، فانتظر السادات لحين انتهائه من جلسة “التدليك”، وأفصح له عن رغبته، فنصحه بالتريث حتى تنتهي المفاوضات.
وبهذا تمت معاهدة كامب ديفيد بما تضمنته من إجحاف وانتقاص، بل وإذلال لهيبة مصر ونكاية في قواتها.
لم يكن اللواء طيار حسني مبارك من الضباط الأحرار، لكنه كان من الزمرة العسكرية القابعة على صدر مصر، فاعتلى كرسي الرئاسة بصفته كان نائبا للسادات، وحكم مصر ثلاثين عاما متصلة؛ مثلت عهدا زاهرا بينه وبين الكيان الصهيوني. فقد كان خلالها مثالا للانبطاح والانصياع أمام الصهاينة، فلم ينكر عليهم أمرا أو يرفض لهم طلبا. ثم إنه كان متعجرفا قاسيا جافا مع الفلسطينيين، فأغلق المعابر على أهل غزة، وردم الأنفاق وغمر أعماقها بمياه البحر، وضيّق عليهم في العلاج والدراسة، ومنع عنهم الطعام والدواء ومواد البناء، في تكاتف عجيب مع الكيان الصهيوني، ولم يردع وزير خارجيته حينما هدد بتكسير عظام الفلسطينيين (تماما مثل اسحق رابين) إذا عبروا الحدود إلى سيناء. وحينما أسقطه المصريون؛ كان قد استحق بجدارة لقب “كنز الصهاينة الاستراتيجي”.
أما ما يحدث الآن فهو مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب إنسان وطني، حيث أضحت خيانة الوطن لصالح الكيان الصهيوني من قبل السيسي وكبار قواده لا تحتاج إلى مواراة أو مداراة، بل عيانا بيانا، وأصبحت التنازلات من جانب العصابة الحاكمة لمصر عرابين مودة ومحبة، واشتملت على الأرض (ألف كيلومتر مربع لمحمد بن سلمان، مآلها للصهاينة وأراضي صفقة القرن) والبحر (جزيرة تيران وصنافير ومضيق تيران المائي) والجو (تعاون وثيق أمني وحربي وغارات جوية أحادية ومشتركة ومسيّرة) والغاز (مساحات شاسعة في شرق المتوسط وحقل ظُهر بإيراداته الخمسة عشر مليار دولارا). ولن يكون طويلا حينما تعبر مياه النيل قناة السويس إلى حيث الكيان الصهيوني، مكافأة على وساطة الصهاينة لدى الحبشة لكي يستمروا في مدّ مصر بماء النيل.
وهذا يوضح لنا كيف بدأت الفترة الزمنية لحكم العسكر بوضع قضية فلسطين في المقدمة، ويظهر لنا الآن أن الأمر كان لمجرد اصطفاف الجماهير خلف الحكم العسكري الفاقد للشرعية من أول لحظة، والذي بالتدريج سلب مصر من كل شيء مفيد، ووضعها في قاع الدول، وبالذات في خدمات التعليم والصحة والحريات وحقوق الإنسان، وأصبحت الملايين يتوقون للهجرة من وطنهم سعيا خلف حياة كريمة ونسمة حرية نقية. وتطور الوضع تحت حكم العسكر ليصبح مجرد التحدث عن الحقوق الفلسطينية مدعاة للمحاكمات وكيْل الاتهامات بالخيانة والعمالة، كما حدث مع رئيس جمهورية مصر العربية المنتخب من قبل شعب مصر، الرئيس الشهيد الدكتور محمد مرسي، بينما العصابة العسكرية المارقة تنعم بالتواصل المستمر مع ألد أعداء الوطن.
تبا لهذه الطغمة العسكرية الفاسدة، وويل لها عندما يثور شعب مصر هذه المرّة