أبت الذكرى السنوية السابعة والستون للانقلاب العسكري في تموز/ يوليو 1952م؛ أن تمرّ دون أن تظهر لنا وجها آخر قبيحا فاحشا من نتائجها، بخلاف ما قامت به تجاه خيانة القضية الفلسطينية، وتحويلها من قضية مصيرية تستحوذ على الاهتمام إلى موضوع يحظى بالاتهام بالعمالة والخيانة، وبالضلوع كعامل أساسي في ما يسمى بصفقة القرن (عربي21 في 22 تموز/ يوليو 2019م). والجانب الآخر من مساوئ انقلاب 23 تموز/ يوليو العسكري هو أسلوب التعامل والتعاطي مع المتطلبات والعوائق الحياتية، التي تقابل المصريين خارج مصر، سواء منهم العامل أو المقيم أو المهاجر.
فقد اتسمت معاملة سلطات العسكر المتعاقبة خلال الستين عاما التي تلت انقلاب 1952؛ للمصريين خارج بلادهم بالمادية والجفاء والتعالي والتجاهل، وعدم الاكتراث بمشاكلهم إن وُجدت مع البلد المضيف، خاصة أنهم في معظم الأوقات هم الطرف الضعيف والمجني عليه، وغالبا لا يجدون من بعثاتهم الدبلوماسية في الخارج العون والمساعدة والتوجيه، وأصبحت هذه شكوى معلومة بين المصريين المغتربين.
تخللت تلك الفترة التي امتدت على مدى السنوات والعقود؛ هجرة المصريين من مختلف التوجهات إلى البلدان المختلفة التي تقبل اللجوء إليها، وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا وبعض الدول الأوروبية. وحيث إن الكثيرين تركوا مصر رغبة في التنفس فكريا بحرية، فقد بدأت السلطة العسكرية بمراقبة المصريين المخالفين للرأي في الخارج، وذلك بنشر القصص وبث الإشاعات التي تباركها أجهزة الاستخبارات، مثل الترويج لاختطاف ضابط مصري من لبنان في ستينيات القرن الماضي، وترحيله مخدرا إلى مصر في صندوق (محاكاة لخطف الصهاينة لأيخمان)، أو بتكليف فرق اغتيال للمعارضين أو الهاربين من ذوي الأهمية للعسكر (مثل الضابط علي شفيق وأشرف مروان وسعاد حسني بإلقائهم من الشرفات)، أو بإيقاف المخصصات المالية للمبتعثين الدراسيين، أو بخداع مخالفي الرأي بالعودة ثم توقيفهم داخل مصر. وقد أثمر كل هذا في خلق جوّ من الترهيب لدى مخالفي الرأي، فيمتنعون عن معارضة الكيان العسكري ولو حتى بالقول.
أدّت كل هذه العوامل ونجحت في استمرار انتشار عامل الخوف بين مصريّي الخارج مدة طويلة. واستبشر المغتربون بإنشاء وزارة لرعاية شؤونهم، لكن سرعان ما تبيّن أن الأمر لم يتغير بل ازداد انحدارا، وخاصة بعد انقلاب السيسي على أول تجربة ديمقراطية في مصر، حينما أصبحت وزارة الهجرة وشؤون المغتربين في الخارج تتخلى عن الأهداف التي قامت من أجلها، لتتحول وظيفتها إلى مكاتب تحصيل للعملة الصعبة، ورصد ومتابعة المعارضين بالخارج وتصويرهم وكتابة التقارير الأمنية عنهم، وحرمانهم من تجديد جوازات سفرهم، وخطف أهاليهم قسريا داخل مصر وتعذيبهم كوسيلة ناجعة للضغط عليهم وإخماد أصوات معارضاتهم للكيان الانقلابي، ومصادرة أموال كل مخالفي الرأي وممتلكاتهم، وإلحاق أسمائهم بقوائم الممنوعين من السفر، وإعادة وتسليم العديد منهم مقبوضا عليهم إما عن طريق الشرطة الدولية (الإنتربول) أو باتفاقيات أمنية ثنائية. وقد أثمر ذلك في نأي الكثيرين عن نشاطات ضد استبداد وانتهاكات حقوق الإنسان في الداخل المصري.
لقد أدى عدم التحقيق ثم محاكمة والقصاص من قتلة الصحفي السعودي جمال خاشقجي (رحمه الله) إلى أن تكون طريقة استدراجه وقتله ثم تقطيع جسده بالمنشار في قنصلية بلده في اسطنبول؛ وسيلة جديدة وأسلوبا يخيف المعارضين ويرهبهم، فيتجنبون النقد والعمل ضد الكيانات المستبدة الممارسة للجرائم خارج نطاق القوانين.
وما قامت بفعله “نبيلة مكرم عبد الشهيد واصف”، وزيرة الهجرة وشؤون المصريين في الخارج، والمسجّل بالصورة والصوت والإشارة، لهو تهديد لكل معارضي كيان السيسي وأجهزته المجرمة القمعية، وهو قرار جدّي ومقلق صادر عن وزيرة ويتردد في أوساط الإعلام الانقلابي، مما يدل على أن هذا الأمر يناقش في اجتماعات ولجان ولم يكن عفويا، رغم محاولات الوزيرة التملص منه عدة مرات. ويؤيد ذلك الأنباء التي أذيعت منذ أيام عن هبوط فريق أمني مصري في تركيا للقيام بعمليات تصفية ضد المخالفين لكيان السيسي السفاح القاتل. وقد قمنا بحملة لإبلاغ السلطات المسؤولة في العديد من دول العالم عن تهديد الوزيرة لنا، الذي هو دعوة علنية صريحة لقتل المصريين ذوي الآراء المخالفة لعصابة السيسي الفاشية.
يعلم شعبنا المصري المناضل أننا نحب بلادنا ولا نقدم على ما يضرها، فمصر هي مهجة قلوبنا ونور أبصارنا، ونحن في الخارج نحمل هموم شعبنا ونعمل بكل طاقاتنا على استعادة حريته المسروقة وثرواته المنهوبة، ولا نستحق أبدا ما تهددنا به وزيرة في سلطة ظالمة طاغية بالنحر والتقطيع. ونؤكد للوزيرة أننا لسنا الذين بعنا الجزر، ولا نحن الذين فرّطنا في ألف كيلومتر مربع من أجود أراضي سيناء مصيرها في النهاية يد الصهاينة، ولم نعلن جهوزيتنا بإخلاء شمال سيناء لإتمام صفقة القرن، ولم نتنازل عن حقول الغاز شرقي المتوسط.. ولسنا نحن الذين تخلينا عن مياه النيل، ولا نسرق الآثار ولا نتاجر في أعضاء البشر، ولا نرسل ذهب منجم السكري للخارج لتنقيته ثم لا يعود إلى مصر ثانية، ولا نرفع الأسعار ولا نقوم بمشاريع وهمية أو لرفع الروح المعنوية للناس، ولا نستدين المليارات من الداخل والخارج ثم لا نعلم مصيرها، ولم نكن الذين عذبنا وصعقنا وقتلنا جوليو ريجيني وخمسة أبرياء لتغطية مقتله، ولسنا نحن أيتها الوزيرة الذين قلنا “إحنا فقرا قوي قوي” ولم نقل للعالم إن التعليم والصحة وحقوق الإنسان في أسفل سافلين.
على وزيرة الهجرة أن تكون دقيقة في أقوالها وأفعالها وتصرفاتها، وأن تعرف جيدا أين توجه منشارها.