في عام 1953م بلغ انتشار مرض شلل الأطفال حدّ الوباء في هولندا (ودول أخرى)، وهو المرض الذي قد يؤثر على عضلات التنفس فتضعف أو تصاب بالشلل فلا يحصل المريض على كفايته من الأوكسجين، وهنا يتدخل الأطباء بعمل فتحة في القصبة الهوائية لإدخال أنبوب متصل بمصدر للأوكسجين فيدفعونه دفعا إلى رئتي المريض بواسطة “حقيبة” خاصة (عبارة عن بالون يمتلئ بالأوكسجين فيضغط عليه الطبيب بكلتا يديه ليفرغه في رئتي المريض)، ولمّا كانت هذه عملية مجهدة مضنية لا يقوم بها شخص إلا لدقائق معدودة مع حاجة المريض لها باستمرار، فقد تمّ استدعاء طلبة الطب لتناوب ضخ الأوكسجين للمرضى على مدار الساعة.
خلال ذلك الوقت العصيب تفتّق ذهن الأطباء بأن لو استبدلوا سواعد الطلبة بجهاز يتولى دفع الأوكسجين للمريض فتتفرّغ الأيدي لعمل آخر يفيد المرضى، وهنا نشأت فكرة جهاز التنفس الاصطناعي الذي بدأ بسيطا وتطور تدريجيا ليصبح متقدما ومعقدا ومتنوعا، وصار وجوده من اللوازم الحيوية لرعاية المرضى بدرجات متفاوتة في أقسام الطوارئ والحوادث والعمليات الجراحية والعناية المركزة، وفي حالات نادرة في البيوت وأثناء التنقل. وحيث أن الإصابة بفيروس كوفيد-19 أساسا في الجهاز التنفسي (وفي غياب علاج خاص بالفيروس)، فإن جهاز التنفس الاصطناعي هو المحور الذي يعول عليه الأطباء في علاج المرضى، وما دون ذلك فهو من قبيل المعاونة والمساعدة لحين تغلّب جسم المريض على الفيروس، وعندها يتم فصل الشخص عن الجهاز على مراحل تسمّى “الفطام”، أي فطم المريض عن جهاز التنفس واعتماده على تنفسه كما كان قبل الإصابة.
ومع انتشار كوفيد-19 في أرجاء الدنيا وبلوغ المصابين به المئات بل الآلاف في وحدات العناية المركزة، أصبحت أجهزة التنفس سلعة نادرة، فلم يكن في حسبان أحد بلوغ الحاجة لهذه الأجهزة مداه، وسمع الناس عن المفاضلة بين المرضى للفوز بالجهاز بناء على معايير معينة (طبية في معظمها) والآخرون يُتركون لمصيرهم. وبين ليلة وضحاها ارتقت أجهزة التنفس إلى قمة متطلبات قائمة علاج الفيروس، وأصبح اقتناؤها من أوليات المسؤولين في دول العالم، ووصل الاهتمام بالحصول على أجهزة التنفس لعلاج المصابين بالفيروس أن يطلب رئيس وزراء بريطانيا من الشركات الصناعية الكبرى في بلده (وعلى رأسها رولز رويس) أن تسخّر إمكاناتها لصناعة أجهزة التنفس على وجه السرعة، بينما يهدد الرئيس ترامب كبريات الشركات الأمريكية (وفي مقدمتها جنرال إلكتريك وفورد) بتفعيل قانون الدفاع الوطني إذا لم تبدأ في إنتاج آلاف أجهزة التنفس.
أما الملفت للنظر فإن نتنياهو، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، رأى أن العالم يشهد تنافسا شديدا بل وحشيا وشرسا للحصول على المعدات الطبية وأجهزة التنفس الاصطناعي، فقرّر من البداية إنشاء غرفة عمليات وطنية بإدارة رئيس الموساد تتولى موضوع فيروس كوفيد-19 وما يتعلّق به. ومن مهام غرفة العمليات هذه توفير الحصول على المستلزمات الطبية وأجهزة التنفس من خارج الكيان الصهيوني بجانب دعم الإنتاج المحلي لديهم، وفعلا بدأت تلك اللجنة في الحصول على مستلزمات طبية بعضها من دول مجاورة لم يفصح عنها، وتحدثت الأخبار عن قيام الإمارات العربية المتحدة بإرسال مواد طبية ومعدات وأجهزة تنفس للكيان الصهيوني. وقد يكون ما يصل للصهاينة خلال هذه الأزمة في صورة هدايا أو بسبب تفاهمات أو نتيجة صفقات تجارية، خاصة وأن الكيان الصهيوني يحمل منذ تكوينه كل أسباب فنائه وتفككه كما بيّنت عدة أحداث، وكما يظهر من تعامل نتنياهو وسلطته مع مصيبة كوفيد-19 وخوفهم من انهيار كيانهم نتيجة لها، وبالذات مع تأكيد استمرار كارثة الفيروس شهورا عدّة، فلا نستبعد قيام جهاز الموساد الصهيوني بعمليات قرصنة يستولي فيها على أجهزة التنفس من دول يراها هدفا سهلا لسطوه وإجرامه.
وإذا كانت دول العالم كله تنظر لكارثة كوفيد-19 بهذا الكمّ من الجدية والمسؤولية، فإننا نرى الكيان الانقلابي في مصر يواجه هذه المصيبة بكل الاستهتار والإنكار والجهل واللامبالاة، مع التعتيم وانعدام الخطط وغياب الوعي، ومعاقبة كل منتقد بالحبس والغرامة حتى لو كان رأيا على وسائل التواصل الاجتماعي، وعدم الإفراج عن آلاف المحبوسين المكدسين في الزنازين والعنابر بسجون الانقلابيين.
وشاهدنا على “يوتيوب” تسهيل سلطات الأمن انطلاق مواكب غناء ورقص ومزاح ونكات، وتجاوب الجمهور معها بالتصفيق والصياح والزغاريد. كل هذا مخالف وضد الواقع المرّ الأليم بسبب شكوى العاملين في القطاع الصحي من عدم توفير الضروريات والمعدات لعلاج المصابين بالفيروس، وصراخ وعويل المرضى وعوائلهم من خلوّ المستشفيات من الأطباء والممرضين ومن أبسط وسائل الوقاية والعلاج من الفيروس، مما ينذر بكارثة لا يعلم حقيقتها إلا الله.
لكن الأخطر في الأمر هو اجتماع سفير الانقلاب مع رئيس الكيان الصهيوني والاتفاق على التعاون في ما يخص أزمة الفيروس، وهذا يدعو للدهشة؛ فالكيان الصهيوني يستجدي المستلزمات والمعدات والأجهزة وليس في وضع يسمح له بالتفريط في أي منها، وكما يقول المثل الشعبي “الحدأة لا تلقي بالكتاكيت”، فأي شيء في مقدوره يمنحه لمصر؟ لكن كيان السيسي الانقلابي يحب الظهور “بالكرم”، فيحرم شعب مصر ممّا هو حق له ويبعثره في هيئة هدايا لمن هو أغنى وأعلم منه (الصين وإيطاليا). ومن “هدايا” سابقة لكيان الصهاينة، منها التفريط في غاز المتوسط ثم إعادة شرائه بأضعاف قيمته، وتدويل الممر المائي بين سيناء وتيران، والمشاركة بالحوامات المصرية أكثر من مرة في إطفاء الحرائق، وتعمير المعابد اليهودية من أموال المصريين (هذا بالإضافة لبيع مبارك لهم غاز مصر بأبخس الأثمان وتوريده للحديد والأسمنت لبناء السور العنصري)، فإننا نستطيع أن نجزم أن السيسي وعصابته سيقومون طواعية بإهداء أعداد كثيرة من أجهزة التنفس من المستشفيات المصرية للكيان الصهيوني، عربونا للصداقة وامتنانا لدور الصهاينة في تأييد الانقلاب، وستكون الهدية رغم علم الانقلابيين بأهمية هذه الأجهزة وقيمتها في علاج مرضى الفيروس من المصريين.
فما الطريق لمنع القيام بهذا العمل قبل فوات الأوان؟ لن يفيد بلاغ للنائب العام فهو ذراع أيمن للسيسي وأعوانه، ولا للجمارك فهم متورطون في تهريب ثروات مصر من الذهب والآثار، ولا للجيش فهو متعاون مع الصهاينة ولا يعتبرهم أعداء .
لم يبق لنا سوى شعب مصر المناضل يهبّ للحفاظ على مقدراته وممتلكاته، فكلما عجّل بسقوط هذا الانقلاب كلما تجنبت مصر وأهلها مصيبة على وشك الوقوع.