في التراث البشري كله، يحظى الموت بنوع من المهابة، والتعامل مع جثمان المتوفي له مراسم وتقاليد في كل الأديان والحضارات، ووصلت بعض الحضارات البدائية لعبادة الموتى لما في الموت من غموض لا يمكن للعقل البشري استيعابه وحده.
والأديان السماوية والوضعية كلها تلتزم بطقوس دينية شعائرية في حالة الموت، هذا الإجلال والتقدير والمهابة كان من التكوينات الرئيسية بأي مجتمع، وكان التمسك باحترام طقوس وتقاليد الموت أكثر من الأحداث الأخرى مهما كانت الظروف.
أما الآن فهذا الحدث يشير إلى مدى ما فقدناه من قيم، حتى أننا الآن نخسر قيما بسهولة شديدة، فكل منا يبدأ في خسارة جزء من ثوابته عند ضغط معين؛ يكون الفارق في قوة الضغط الذي ينهار عنده، وبعضنا تكون قدرته على التحمل عالية، بحيث أن يفقد حياته قبل أن يتنازل عن ثوابته الفكرية.
على أية حال، كان احترام الموت في آخر سلم التنازلات، نظرا لمركزيته في الفكر البشري الديني والوضعي وغموضه كما ذكرنا. فحتى في الحروب القديمة كان جمع جثامين القتلى واحدا من الثوابت الأخلاقية أثناء الحروب، وكان التعامل مع جثامين القتلى أحد المعايير التي تشكل حكمنا عن حضارة ما في الحرب. كما أن الحرمان من الدفن كان له تأثير واسع وكبير، فما حدث مع عمر المختار بليبيا وغيره من المناضلين أو حتى من يعتبرهم البعض مجرمين، بعدم تسليمهم الجثمان بعد قتلهم أو إعدامهم، كانت من الموبقات الأخلاقية.
كما أن الكره الشديد للعدو لم يكن مبررا للتمثيل بجثمانه ولا عدم تسليم جثمانه لأهله ولا عدم السماح بدفنه. ولا زال ما فعلته أمريكا بجثمان أسامة بن لادن بعد قتله وصمة عار عليها مهما كان الحكم عليه.
ولكي يبقى أي إجراء منتقد لا بد من الحفاظ على مجموعة القيم التي تحكم المجتمع كي يبقى الحكم على الإجراء كما هو. فمثلا نظرة المجتمع للممثل ورجل الدين وللمرأة تغيرت عبر المئة عام الأخيرة بناء على برنامج “تنويري” مكثف لتغيير المفاهيم الرئيسية عند الشعوب، ولكن كان للموت برنامج أكثر قسوة، فقد كانت قيمة الموت عالية لدرجة تحتاج لجرعات أكثر شراسة.
كانت البداية بـ”تشريس” جزء من المجتمع، إن صح التعبير، ورفع مظلة القانون والعرف، واستخدام هذه الكتلة المشرسة في أحداث صادمة للغاية منذ كانون الثاني/ يناير 2011، وخروج ما كان يحدث في الغرف المغلقة من تقطيع ودفن إلى العلن. فوجدنا حرق 36 شخصا في عربة ترحيلات، ووجدنا جرفا لجثث في فض اعتصام رابعة والنهضة دون أن يطرف جفن أحد، ووجدنا أحد “الرموز” يهرع ليأخذ صورا لنفسه وخلفه جثث ضحايا فض الاعتصام، ووجدنا إطلاق نار على جنازة أحد ضحايا فض اعتصام رابعة، ووجدنا رقصا وغناء أمام منزل أحد الضحايا ليله دفنه، ووجدنا بصقا على جثة شهيد أثناء دفنه.
هذا الجزء الذي تم تشريسه، وهو بالمناسبة ينتمي للسلطة، مما يزيد من حجم الجريمة، فلم يعمق شرخا مجتمعيا كبيرا فقط؛ ولكنه دفع إلى رؤية جديدة للتعامل مع الموت، وهي نتاج لتدمير متوال للقيم. فالتعامل مع الموت يحدد كيف يرى الإنسان الحياة، ومع الكره الذي رسخه العسكر ومع غياب المحاسبة ومع التشريس السابق ومع الانهيار العام في القيم والأخلاق والبنية المجتمعية، بقيت خطوة واحدة أو أقل لكي يتساوى الموت مع غيره، وهذا أحد المدمرات النهائية لأي حضارة أو مجتمع.
تمكن إعادة بناء المباني المدمرة، وتمكن إعادة بناء النظام السياسي كله، ولكن المأساة التي نواجهها أكثر قسوة من كل ذلك هي كيف نعيد بناء أنساق القيم التي تنهار تباعا؟