مع تزايد الظلم وازدياد فُجر وجبروت الطغاة كنا نبتهل لرب الكون ونقول “ليس لها من دون الله كاشفة”، ولم ندرك حينها ما هي الكاشفة. وكان تفكيرنا البشري المحدود قاصرا على الطغاة المباشرين، فإذا بالرسالة تأتي لتوحد البشر أجمعين لتذيب كل الفوارق بينهم وتذكرهم بأنهم سواسية كأبناء لآدم لمواجهة الخطر القادم، الذي ربما سيطال الجميع لمجرد أنهم يمثلون نفس الكائن، يتنفسون نفس الهواء، وأن لهم نشاطا اجتماعيا يميزهم عن باقي الكائنات الحية، فتحول الهواء، مقوم الحياة الأساسي والتواصل الاجتماعي، إلى مصدر محتمل للإصابة، وربما مفارقة سطح الأرض إلى باطنها.
وأيا ما كان مصدر فيروس كورونا، سواء كان مُخلقا وخاضعا لنظرية المؤامرة وتمرد عليها، أم إنه متطور من ذاته من خلال طفرات جينية متتالية جعلته أكثر ذكاء وشراسة وعدوانية، فإنه مما لا شك فيه أننا أمام خطر داهم يتحرك تحت إرادة الله وبأمره.
ولنتذكر هنا الآية الكريمة (24) من سورة يونس: “إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”.
نعم تزينت لنا الأرض وتزخرفت وأصبح الإنسان يشعر بأنه يتحكم في كل شيء فيها، من اتصالات وأموال وبورصات، بل وعقول وطريقة تفكير وتوجيه لأمم وشعوب كاملة.
ألم تصبح هناك أمم تهدد أمما وشعوبا وحضارات بالإبادة والفناء والغرق، مثلما تفعل إثيوبيا بتهديد مصر بالعطش وبالفناء جراء سد النهضة؟.. “وظنوا أنهم قادرون عليها”.
ألم تبع دولٌ تتشدق ليل نهار بالإنسانية وحقوق الإنسان ضمائرها وأخلاقها، مقابل عدة مليارات من الدولارات يلقي بها مجرم مثل السيسي تحت أقدامها ليشتري بها سلاحا أو يقيم بها صفقات، ثمنا لسكوتها على جرائمه في حق الإنسان المصري والعربي، بسجن واعتقال واغتيال وإعدام آلاف الأبرياء؟.. “وظنوا أنهم قادرون عليها”.
ألم يبع بشار سوريا كاملة وشرد الملايين من شعبها، كما قتل الملايين ودمر بلادا وحضارة، وفرط في الباقي لصالح روسيا وإيران، شركائه في قتل الأطفال والشباب والشيوخ والنساء؟.. “وظنوا أنهم قادرون عليها”.
ألم يرتع ويلعب ابن سلمان وابن زايد كيفما يشاءان في اليمن وسوريا ومصر وليبيا تحت رعاية ومباركة من الدول العظمى كافة، فقتلا الملايين وشردا الملايين واعتقلا عشرات الآلاف، وأنّت الشعوب من المجاعات والفقر؟.. “وظنوا أنهم قادرون عليها”.
ألم يسجن الكيان الصهيوني ملايين الفلسطينيين ويقيد حريتهم، ويعتقل مليونا ونصف المليون غزاوي في أكبر سجن مفتوح في الكوكب، بمساعدة النظم العربية العميلة ومباركة الدول التي تدعي أنها عظمى؟.. “وظنوا أنهم قادرون عليها”.
ألم يعانِ مسلمو الإيجور من بطش الحكومة الصينية، ومسلمو ميانمار ومسلمو الهند وكشمير من بطش الطغاة ومباركة دول الخليج والدول العظمي؟.. “وظنوا أنهم قادرون عليها”.
ألم تعان الدول الأفريقية لعقود من سرقة مقدراتها وثرواتها لصالح دول أوروبا وأمريكا، بينما يعاني أهله الفقر والتخلف؟.. “وظنوا أنهم قادرون عليها”.
ألم يتطاول كل نطيحة ومتردية على حدود الله وبيوته ومقدساته، في تحد صارخ لإرادة الله وقدرته، ووجد له أتباعا ومريدين؟.. “وظنوا أنهم قادرون عليها”.
ألم تمعن الجماعات العنصرية في عصرياتها بمختلف أشكالها وأساليبها، ونسيت أن بني البشر يجمعهم عرق واحد وأب واحد؟.. “وظنوا أنهم قادرون عليها”.
ألم نجد أن الدول والإمبراطوريات العظمى، التي أوتيت من القوة والتسليح بكل أنواع الأسلحة وبقوة تدميرية تكفي لتدمير كل أشكال الحياة على الكوكب لعشرات المرات، باتت عاجزة ببوارجها وغواصاتها وبأسلحة الدمار الشامل النووية والكيمائية والبيولوجية، فضلا عن كل ترسانات الأسلحة التقليدية المتنوعة والمحترفة بالفتك بالبشر وحرق الأرض والزرع والنسل، بعد أن كانوا يظنون أنهم قادرون عليها؟
ألم يُحبس قادة الدول وقادة الجيوش ورؤساء الأركان والساسة والشعوب جميعا في بيوتهم طواعية خوفا من هذا الفيروس، وبات كل ظهور لأحدهم يكتسي وجهه بين العجز والخوف والتبشير بأن القادم أسوأ؟ أين ذهبت سطوة العلم وتكبر التكنولوجيا وثقة الأقوياء وتجبر الافتراء وغرور الساسة؟ بات كله ضعيفا هزيلا، بعد أن كانوا يظنون أنهم قادرون عليها.
وهنا أتى أمر الله ليصفع البشرية صفعة قاسية علها تستفيق بعدما أمهلها طويلا. أتى وباء فيروس كورونا، لتقف الأرض بكل زخرفها وزينتها عاجزة أمامه. فحتى كتابة هذا المقال بلغ عدد المصابين من بني البشر أكثر من 500 ألف وعدد الوفيات منهم ما يقرب من 30 ألفا، مع احتمال إصابة 90 في المئة من سكان الكوكب إن لم تتخذ التدابير اللازمة بصرامة، ويتم التوصل للقاح ودواء ناجع في غضون الأسابيع أو الشهور القليلة القادمة.
فبات هؤلاء بقواتهم وبجبروتهم ومكرهم وتدبيرهم عاجزين أمام مواجهة مخلوق ضعيف يموت قبل أن يصل لنصف درجة غليان الماء، مخلوق ضعيف لا قدم له ولا أذرع ولا عقل يفكر، ولكن قوته تستمد من ضعف بني الإنسان، الذين توهموا وظنوا أنهم قادرون عليها.
صَغُر الإنسان بكل ما أوتي من حضارة على مدى ملايين السنين، ومن قوة ومن جبروت أمام هذا الكائن الضعيف التافه، الذي يحصد المئات كل يوم من بني الإنسان.
إن هذه المرة الوحيدة في العصر الحديث التي توحدت فيها كل البشرية، والتي تجاوزت الـ7.7 مليار إنسان يشتركون جميعا في خاصية واحدة، وهي التنفس للحصول على الأوكسجين اللازم للبقاء على قيد الحياة، فجاء هذا الفيروس ليكون الهواء هو الطريقة الأمثل لاختراق وتدمير جهاز فصل الأوكسجين وتهيئته للاستخدام بالطريقة المثلى داخل جسم الإنسان ليستمر في وظائفه. فبات كل سكان الكوكب الأزرق مستهدفين بهذا الفيروس مهما كانت مكانتهم، فلا فرق بين وزير ولا غفير ولا غني ولا فقير ولا صاحب مال وسلطان وجاه ولا ساع على قوت يومه. لا فرق بين مدعي نسب ولا صعلوك بلا تاريخ ولا حسب. الكل سواسية أمام كورونا، فكورونا يرى قادة إمبراطوريات ودول واتحادات العالم مثل الشحاذ الفقير القابع على إحدى النواصي في أفقر دول العالم.
فكورونا لا ينظر إلى السير الذاتية لهؤلاء، لأنه لا يراهم إلا أنفا وحلقا ورئة، وهذا يكفيه ليقوم بوظيفته؛ إما بالقتل السريع أو البطيء، أو التعافي حسب إرادة الله.
ألم نفر بعضنا من بعض بسببه؟ أليس هذا يذكرنا بالآية الكريمة من سورة عبس: “فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)”؟ ألم يفر الأصدقاء من أصدقائهم؟ أوليس إذا أصيب أحد أفراد الأسرة لا قدر الله سيفر منه الآخرون، وسيكون لكل واحد من أفراد الأسرة شأن يغنيه في تدبير أساليب الحفاظ على حياته؟
إنها رسالة السماء التي لا بد وأن يستوعبها البشر كل البشر على مختلف مشاربهم وأديانهم ومعتقداتهم. إننا أمام تحدٍ متفرد وغير مسبوق، ولا بد من استيعاب هذه الرسالة، التي جاءت بعد إمهال طويل، والتي تعد بيانا عمليا للاستعداد ليوم القيامة، يوم الفصل الحقيقي. وإذا كنا اليوم نفر من فيروس تافه حفاظا على حياتنا آملين في رحمة الله أن يرفع عنا هذا البلاء، وداعينه سبحانه أن يهدي ذوي الهمة من بني البشر للوصول إلى علاجه، فإن يوم الصاخة الحقيقي لن نستطيع أن نفر من أعمالنا وأوزارنا التي ستثقل كواهلنا، ولا ملجأ لنا ولا نجاة إلا رحمة الله. فملجؤنا إذا هو إيماننا بالله، إنه هو القادر الأوحد عليها، وليس على الأرض فقط، ولكن على الدنيا كلها.
والرسالة هي لكل ظالم أن يعود عن ظلمه، ولكل متجبر أن يكف عن جبروته، وعلى كل مغتصب أن يعيد الحق لأصحابه. إنه الدرس الذي لا بد من استيعابه لنستعد به ليوم الفصل الحقيقي، الذي سيكون فيه الحل والنجاة ليس بيد أحد من علماء بني البشر، ولكن بيد الواحد القهار العدل، فإما “سحقا سحقا” وإما “ادخلوها بسلام آمنين”. وأولى علامات استيعاب درس كورونا وفهم رسالة السماء فيه، هو إرساء قواعد العدل وأسس الأمان وسبل السلام في كل ربوع المعمورة، وأن يكون العالم بعد كورونا مختلفا تماما عما قبلها. وهذا ما سنناقشه في المقال القادم إن شاء الله إذا كان في العمر بقية.
فكورونا الذي حصد لم يكن ليفعل هذا لولا استهتار البشر.