كان فيلم أغنية على الممر واحدا من الأعمال الفنية المميزة التي ظهرت في بداية السبعينيات، والتي تحكي عن مأساة هزيمة 5 حزيران/ يونيو 1967، اليوم الذي لا زالت مرارته تتوارثها الأجيال، حتى التي لم تشهدها. فأكثر من 90 في المئة من الشعب المصري الآن لم يشهد الهزيمة ولم يحضرها، ولكن تحول الإحساس بمرارة تلك الهزيمة إلى ما يشبه الجين الذي تتوارثه الأجيال.
يحكي الفيلم عن مجموعة من الشباب المستدعى قبل الحرب من عدة أماكن في مصر؛ لا ينتمي للمنظومة العسكرية، ووضعت القيادة هولاء الشبان وغيرهم للدفاع عن أحد الممرات. وتعتبر الممرات بشكل عام من النقاط الهامة اثناء عمليات الدفاع، والتنازل عنها أو فقدان السيطرة عليها؛ يعتبر خسارة كبيرة حسب أهمية الممر الدفاعية.
وفي يوم 7 حزيران/ يونيو، بعد أن مارس عسكر مصر هوايتهم في الانسحاب وترك الجنود والشعب عاري الصدر في مواجهة العدو؛ وجد هؤلاء الشباب أنفسهم وقد خسروا معظم قوتهم العسكرية، وبلا جهاز اتصال، في مواجهة قوى العدو الصهيوني الذي يحاول السيطرة على الممر، ودون أن يعرفوا بانسحاب كل الجيش إلى خطوط دفاعية أخرى. وتركنا عم محمد ورفاقه أمام أسئلتنا التي نعيدها كل عام محاولين الإجابة عنها.
الأسئلة التي ما زلنا نطرحها مع مراراتها اللاذعة: لماذا انهزمنا ولماذا كانت الهزيمة بهذه القسوة والإهانة؟ الجميع يحاول الإجابة بالرغم من النقص الشديد في المعلومات حول الحرب حتى الآن، مع عدم إفصاح النظام العسكري المصري عن الوثائق المتعلقة بالحرب؛ إلا أن هناك محاولات للإجابة قدمها ممر الشاويش محمد.
1- قدم الشاويش محمد ورفاقه نموذجا للقوى الشعبية التي استمرت في الدفاع بقدر استطاعتها، عندما امتلكت السلاح، ولم تعد مرتبطة بالنظام العسكري، حيث انقطع الاتصال ولم يستقبلوا الإشارات التي تدعوهم للانسحاب، ولذلك كان قرارهم باستمرار الدفاع عن المعسكر دون معرفتهم بالكارثة التي حدثت. وهذا الأمر يبين أن الهزيمة لم تكن بسبب شعب خانع أو لا يريد القتال، ولكنها بسبب نظام عسكري مترهل غير قادر على التخطيط وغير مؤهل لإدارة معارك، أو حتى حماية نفسه، وما زالت تلك الظاهرة مستمرة حتى الآن.
2- هناك بعض المعارك التي يجب عليك خوضها مهما كانت النتائج، وهي المعارك التي يعتبر الانسحاب منها أو الاعتراف بالهزيمة خطأ يرقى للجريمة، هذا إذا تجاوز أثره مجرد هزيمة في معركة إلى هزيمة وجودية لمشروع فكري وتنموي. فعم محمد ورفاقه بعد أن علموا بالهزيمة وانسحاب الجيش لخط الدفاع الثاني، رفضوا الانسحاب، وأصروا على استكمال الدفاع دون غذاء أو إمدادات للدفاع عن الممر. واستمر عم محمد والجندي الأخير المتبقي من كامل السرية المقاتلة؛ في معركة تبدو مستحيلة، ولكنها أيضا حتمية والانسحاب منها غير مسموح به.
3- الشعوب هي خط الدفاع الأقوى وليست الجيوش النظامية. فالجيش النظامي هو الدرع المتقدم للبلاد، وإذا كان مهلهلا وضعيفا؛ فصاحب الحق الأصيل – الشعب – يكمل مسيرة الدفاع. وفي مصر كان الشعب هو الساتر الدائم لعسكر مصر الذين يستمتعون بعروض الانسحاب والهزيمة أمام أعداء الشعب دائما. ففي حروب 48 و56 و67، وحتى 73، كانت انسحابات العسكر تعوض بمقاومة الشعب، وعم محمد الفلاح البسيط نموذجا لذلك.
4- مشهد 9 حزيران/ يونيو هو المشهد الأكثر قسوة في تاريخ مصر الحديث، عندما رقص بعض أعضاء المجلس فرحا بعودة الزعيم المنهزم في الحرب عن قراره بالتنحي عن الحكم واستمرار المسيرة، ولم يحاسبهم الزعيم العائد ولا نظامه على الرقص فوق دماء الشهداء. مارس أعضاء المجلس النيابي المعبر عن الشعب الرقص، ولا زالت آلاف الجثث مبعثرة في ميدان المعركة التي لم تتم، وعشرات الآلاف من الجنود مفقودين في صحراء سيناء؛ لا زالوا تحت عروض الصهاينة النيرانية المجانية للقتل. وهذا المشهد يجيبنا على سؤال: لماذا كانت الهزيمة بتلك القسوة؟ فلم يكن أحد من “رجال الدولة” يهتم بشأن أحد من الشعب، بل هم مجرد أدوات للحفاظ على النظام حتى لو انهزم هزيمة ساحقة. والأدوات ليست بشرا تنكس لهم الأعلام ويحاسب على التضحية بهم المسؤولون، ولكنها أدوات قابلة لإعادة الإنتاج، ولم يستطع نظام عبر التاريخ من تجنب الهزيمة الساحقة عندما يتعامل مع شعبه كأدوات للإنتاج أو الحرب مهما طال الزمن.
إننا نسترجع بعد 51 عاما تلك الهزيمة، لا لنستمتع بهذا اليوم الأسود، ولا هو حنين لتعذيب الذات، ولكنه ربما إعلان عن أن أثر تلك الهزيمة لا يزال يؤلمنا جميعا، وأن النظام العسكري الذي تسبب في تلك الهزيمة المذلة ما زال لا يرانا كبشر، ولكن كأدوات لإنفاذ سلطة الاستبداد، وكخزان بشري للحروب بالوكالة. وما زال يهبط بنا للهاوية، وما زال يسير إلى حتفه الحتمي الذي ربط فيه كل مصر وشعبها وكأنه مرسل من الجحيم ليحرق بلادنا.
إن أغنية الممر ما زالت تكتب ولم تنته بعد، وربما لن تنته حتى تتحرر مصر من هزيمة 67، ولن تتحرر مصر من آثار تلك الهزيمة إلا بالتحرر من أسبابها المستمرة حتى الآن، ولن تتحرر إلا بأمثال عم محمد وجنوده الصامدين عند الممر حتى آخر طلقة وآخر رجل.