لا أعلم ما إذا كان بابا الفاتيكان، فرانسيس، قد مر بطريق النصر، متجهاً من فندق جنرالات مصر، الماسة، إلى الكاتدرائية المرقسية، ثم الكنيسة البطرسية، ليضع الورود ترحماً على ضحايا الإرهاب الذي ضربها، أم أنهم ساروا به في طريق آخر.
لكن المؤكد أن أحداً لم يلفت عناية “بابا السلام” كما وصفته لافتات الترحيب، إلى أنه في المسافة التي قطعها من مدينة نصر إلى العباسية، وقعت مجازر وجرائم ضد الإنسانية، نفذها أولئك الذين استقبلوه، ونالوا دعمه السياسي والروحي، وحصدت أرواح آلاف الضحايا، لم يضع أحد وروداً ترحماً على أرواحهم، ولم يعتبرهم أحد شهداء، كما اعتبروا ضحايا البطرسية.
في هذه الأمتار التي نهبتها عجلات السيارة المقلة لرجل الفاتيكان، سقط آلاف الشهداء في ميدان ومسجد رابعة العدوية، وفي طريق النصر، عند النصب التذكاري للجندي المجهول، وفاض سيل الجثث حتى ملأ ذلك المسجد الصغير، أسفل كوبري أكتوبر بمواجهة وزارة المالية.
هؤلاء الضحايا حصد أرواحهم “تنظيم دولة عبد الفتاح السيسي” على مرأى ومسمع الجميع، تماماً كما حصد “تنظيم الدولة في سيناء” أرواح ضحايا الكنيسة، لكن شتان بين ضحايا وضحايا… ضحايا السيسي لم يبك عليهم أحد في الدولة المصرية، لم يصنفوا شهداء، على الرغم من أنهم كانوا مثل ضحايا البطرسية، معتصمين في بيت الله وحوله، ولم يعوض ذويهم أحد، ولم يرمم المسجد الذي أحرقته سلطات السيسي، بينما في المقابل، أُعلن الحداد على ضحايا البطرسية، وصُرفت التعويضات فوراً، ورممت الكنيسة. هل يعلم بابا الفاتيكان أن بيتاً من بيوت الله أحرقته السلطة وقتلت من فروا من المذبحة إليه، ظناً أن القتلة سيوقفون الضرب لوجه الله الكريم، وأن بيت الله هذا مغلق بالسلاسل، ومنزوعة صفحته من سجل مساجد القاهرة العريقة منذ أربع سنوات؟ مسجد رابعة العدوية، شهيدة العشق الإلهي، ذو المكانة والأهمية الروحية والتاريخية، سقط من الذاكرة، ولم يكتفوا بمحو اسم الميدان الذي يقع فيه، بل حولوه إلى خرابة محترقة. في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، وبعد أقل من ثلاثة أشهر على المجزرة التي وقعت فيه، نشرت صحافة السلطة الجديدة تصريحاً لمحافظ القاهرة، الدكتور جلال مصطفى سعيد، يقول فيه إنه سيتم افتتاح مسجد رابعة العدوية خلال أسبوع وأنه تم الانتهاء من تطوير مجموعة المباني والمدارس الكائنة في محيط رابعة، وأن هناك تنسيقا جاريا مع القوات المسلحة والجهات الأمنية لفتح ميدان رابعة أمام حركة السيارات بشكل كامل ومن كافة المداخل، حيث إنه لا يوجد مبرر الآن لغلقها تحقيقاً للسيولة المرورية”. مرت ثلاث سنوات على هذا التصريح ولم يفتتح المسجد، حتى خرج علينا رئيس القطاع الديني بوزارة الأوقاف، جابر طايع، في 13 يونيو/ حزيران 2016، بتصريح آخر يعلن فيه أن مسجد رابعة العدوية بمدينة نصر، الذي غيروا اسمه رسمياً إلى “هشام بركات” ما زال مغلقاً رغم الانتهاء من جميع أعمال الترميم التي أجريت له عقب أحداث فض اعتصام رابعة العدوية في أغسطس/ آب 2013، وذلك لدواع أمنية، وفي حال افتتاحه سيكون كغيره من المساجد التي تخضع لوزارة الأوقاف. في بلادنا المنكوبة بطغاة تدعمونهم (يا بابا السلام) إرهاب تمارسه الدولة منذ سنوات، وتصنع إرهاباً تمارسه تنظيمات القتل ضد المدنيين، كي تبرر إرهابها الأوسع، وتسوغ لنفسها اختطاف السلطة، ومصادرة حق الجماهير في التعبير، وحرق تطلعاتها للتغيير الديمقراطي، ثم تحصل على مكافآت سخية من المجتمع الدولي، وتنعم بزيارات مثل زيارتكم. في بلادنا المخطوفة بواسطة الجلادين الذين تحبونهم، تهان بيوت الله وتراق الدماء على الجانبين، لكن ثمة دم رخيص لا يضع وروداً على أرواح ضحاياه أحد.