كما أن هناك شيوخا للسلاطين، يفصلون الفتاوى على مقاسهم (السلاطين)، فلدينا صحافيو البلاط، الذين يزمرون ويطبلون وفق توجيهات الذوات الرئاسية. ومنذ انفجار الهبات الشعبية في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، صارت تتردد مقولات خبيثة مؤدّاها “أن الجن الذي تعرفه خير من ملاك لا تعرفه“، بمعنى أن عاقبة إسقاط الأنظمة الديكتاتورية، أملا في إرساء حكم ديمقراطي وخيمة: انظروا الدمار الذي لحق بسوريا واليمن وليبيا.
من يرددون مثل تلك المقولات التعيسة البئيسة، يريدون إقناعنا بأن بشار الأسد وعلي صالح والقذافي كانوا أهون الشرور، وأن من سعوا للإطاحة بهم شر مستطير، لأنهم سبب البلايا والرزايا التي نزلت على رؤوس شعوب تلك البلدان.
والمحزن في الأمر، هو أن بعض الصحفيين، وليس السلاطين أنفسهم، هم من يجأرون بحديث الإفك ذاك، فما من سلطان يملك ذرة من العقل، يصرح بأنه حاكم مزمن وللسلطة مدمن، و“يا شعب أن
والمحزن في الأمر، هو أن بعض الصحفيين، وليس السلاطين أنفسهم، هم من يجأرون بحديث الإفك ذاك، فما من سلطان يملك ذرة من العقل، يصرح بأنه حاكم مزمن وللسلطة مدمن، و“يا شعب أنا أو من بعدي الطوفان“. لا، فالصحفيون المنافقون قريبون من السلطة، ومن ثم يعرفون من أين تؤكل الكتف، ويَعْفون الحكام من حرج الانتقاص من شأن الانتفاضات والثورات الشعبية.
ما حدث في مصر في يناير 2011، وأدى إلى سقوط حكم حسني مبارك، انتفاضة شعبية وليس ثورة، والانتفاضة مرحلة أولى من مراحل الثورة، بمعنى أن الثورة في مصر لم تكمل دورتها، ولكنها قادمة وحتمية، فلم تخرج الملايين لإسقاط نظام مبارك إلا سعيا منها لجعل الشعب يختار حكامه، ولكن تم اختطاف الانتفاضة من قبل جنرالات القوات المسلحة، ويستطيع كل ذي بصر وبصيرة، أن يرى خلل الرماد الذي يغطي الساحة المصرية، وميض نار سيكون لها حتما ضرام.
وما حدث في تونس أيضا انتفاضة شعبية، أعقبها، كما حدث في مصر، فوز التيار الإسلامي بالانتخابات، وحين انقلب عسكر مصر على الانتخابات والديمقراطية رفضا لفوز الإسلاميين، وعي إسلاميو تونس الدرس، وسدوا الطريق والذرائع في وجه قطَّاع الطريق والشرائع، وتنازلوا عن الجزء الأكبر من كعكة الحكم، وكفوا بلادهم شرور الاقتتال.
وبالمقابل فإن ما حدث في ليبيا وسوريا واليمن “ثورات” لا تقبل الحلول الوسطى، وهي تواجه أنظمة أو تركات أنظمة، لا تقبل الرحيل، وما من نظام ديكتاتوري يبقى في الحكم لقرابة عقدين أو أكثر، إلا وصارت البلاد مهلهلة، لأنه يعمد إلى تكريس الجهوية أو القبلية أو الطائفية، ويخلق مسافة كبيرة (تسمى في علم السياسة الاجتماعي عند الغربيين Power Distance) بين النخبة المتحالفة معه وعامة الشعب، ولهذا تفرق الصومال شذر مذر بعد سقوط حكم سياد بري، وبعد سقوط نظام البعث في العراق، استغلت قيادات شيعية الأغلبية الميكانيكية، لتصفية الحسابات مع السنيين، لأن صدام كان سنيا، رغم أن نظام حكمه كان علمانيا (وأضاف “لا إله إلا الله” إلى العلم العراقي في ساعة زنقة).
وليبيا متنازع عليها بين الشرق والغرب والجنوب على أساس جهوي وقبلي، ويحمد للأطراف المتنازعة فيها، أنه ولا واحد منها يبكي على حكم القذافي أو يريد عودة القذافية، ورغم أن ليبيا تشهد اقتتالا يبدو عبثيا، ورغم أن الحوثيين يحلمون بالمستحيل (إقامة دولة ولاية الفقيه الحوثي)، ورغم أن بشار الأسد والروس يتقدمون هنا وهناك على تيارات المعارضة المتحاربة فيما بينها، فعلم ومنطق الثورات يقول إن الإرادة الشعبية تنتصر، وإن ذلك الانتصار يسبقه نزف دم شديد، وما من ثورة بلا دم، لأنها تسعى لنسف القديم بالقوة، لأن القديم يقاتل من أجل البقاء والانفراد بالسلطة، بكل ما يملك من أدوات عنف.
الثورة الفرنسية ضد الظلم والإقطاع، والتي علمت الغرب الديمقراطية الليبرالية، مستلهمة القيم التي بشر بها ما يسمى بعصر التنوير والتي تنادي بوضع السيادة في يد الشعب، وجعل حقوق المواطنة غير قابلة للنقض، تلك الثورة استمرت من عام 1789 إلى عام 1799، أي عشر سنوات رغم أن إسقاط الملكية وتفكيك الإقطاع تم خلال أشهر قليلة، فكما يحدث في كثير من الثورات وجدها الغوغائيون فرصة لتصفية الحسابات بالتصفيات الدموية لكل من اتهموه بـ“الثورة المضادة” وقاد أحد أبرز رموز تلك الثورة –روبسبير– عمليات عنف دموية حتى ضد رفاقه في إشعال الثورة، ثم راح فيها روبسبير ودانتون وغيرهما، وهاصت الأمور وجاطت، فوجدها نابليون برونابرت فرصة لتولي مقاليد الحكم في فرنسا، ولكن، وبرغم الفوضى والدم الغزير المهراق انتصرت في النهاية قيم الثورة الفرنسية.
والشاهد، تجده في قول الشاعر الفلسطيني الراحل توفيق زياد “أول الغيث دم ثم الربيع“، ومصر وليبيا واليمن وسوريا تعاني اليوم من مزيج من السعير والصقيع، ولكنها بشائر الربيع….. الحقيقي.
جعفر عباس
عربي ٢١