ربما كان من المفيد في هذه اللحظات أن نسترجع مشهد بوتفليقة وهو يصافح المخلوع وعلى وجه الاثنين تعلو ابتسامة تحمل تعبيرا ما بعدما أنهك الإعلام الرسمي في البلدين شعبيهما في دوامة مجنونة من التلاسن والعداء المصطنع. يبدو ما يحدث الآن قريب الشبه إلى حد بعيد بما حدث وقتها. الجملة الشائعة التي أصبحت جزءاً من مكونات الثقافة السياسية للكثيرين في العالم العربي “اتفقوا على ألا يتفقوا” تبدو الأكثر تعبيرا عن الحقيقة وإن كانت تحمل من المعاني المباشرة الصريحة في طياتها أكثر مما تحمله من معانِ مجازية.
هناك فعلا اتفاق بين كل الحكام العرب على ألا يتفقوا!
حسنا.. ما الجديد؟
الجديد أن هذا حقيقي وليس مجازيا.
كان عبد الناصر يقول للبسطاء : على الاحتلال أن يحمل عصاه ويرحل.
ويبدو أنه رأى من غير المناسب أن يكمل الجملة : “فنحن عصا المحتل”
السوط المحلي الذي تحدث عنه اللورد دافرين في تقريره عن مصر.
ويبدو أن الاحتلال قبل أن يرحل من بلادنا ويترك عصاه المحلية, سلم غفره, ضمن ما سلمهم كتيب تعليمات لإدارة المنطقة, في البداية كان يرسل خبراءه من المخابرات الأمريكية للإشراف على إدارة مرحلة الاستقلال الاسمي, ثم بعد ذلك أجادت الأجهزة والمؤسسات التي صنعها, اللعبة. وقد يلاحظ الأذكياء أنه لا تخلو منطقة حدودية من فخاخ تصنع مشاكل عند الحاجة. فهل كان المحتل الذي رسم الحدود قبل أن يرحل عاجزاً عن رسم حدود سليمة تضمن عدم النزاع في المستقبل بين هذه الدول؟
وظيفة هذه الخلافات الحدودية كما هو واضح هي تأجيج الصراع بين الدول التي تخلفت عن تفكيك الخلافة الإسلامية, وإشعال الخلافات وقت الحاجة والإبقاء على هذه الشعوب في حالة تناحر مستمر. بالأمس وصفت إذاعة الجيش السوداني معلقة على موضوع حلايب وشلاتين أن قائد الانقلاب في مصر هو خباز “إسرائيل” وهو قول دقيق تماماً.
إلا أنه وفي نفس اليوم تقابل الرئيس السوداني مع قائد الانقلاب في البحر الميت وبابتسامات تشبه تلك المتبادلة بين بو تفليقة والمخلوع بعد مباراة مصر والجزائر, بدا أمام الكاميرات أنه لا شيء يقدر على تعكير الصفو.
وبالأمس قام البعض بإعادة بث فيديو قديم لبو تفليقة يتحدث فيه عن المغرب بصورة غير لائقة.
لتظل النار مشتعلة بين الشعوب المسلمة, وهو تكتيك يجيده حكام منطقة سايكس بيكو.
والحقيقة أنه لمن الكوميدي أن يثير إعلام الانقلاب ملف حلايب وشلاتين باعتبارها (مسألة وطنية) بعد أن فرط الانقلاب في تيران وصنافير وفي حقول غاز المتوسط وفي ظل عمليات النهب المنظم لثروة مصر من الذهب في منجم السكري وغيري والتي تجري تحت إشراف أجهزة العسكر. وإنه لمن المضحك بنفس القدر أن أتصور الرئيس السوداني الذي فرط في جنوب السودان يثير مسألة حلايب وشلاتين.
ربما قد يعتب البعض من أخوتنا السودانيين على ما أقول, لكنها الحقيقة دون مواربة.
لن أقف بطبيعة الحال مع الانقلاب إذا أثار الأمر باعتباره (مسألة وطنية), فلستُ الوحيدة التي تدرك أنه بمجرد التلويح لقائد الانقلاب بشوال من (الرز) سيتحول التراب الوطني والحدود المقدسة وكل هذا (الكلام الكبير) إلى نكتة. وأن نفس الأبواق التي ستتحدث عن (التراب الوطني) هي نفسها التي ستبرر التنازل عن حلايب وشلاتين وربما وجدت منى عبد الناصر وثيقة تفيد بـ (سودانية) حلايب وشلاتين. كما أنني أدرك أن الاستغلال الإعلامي الرسمي في السودان لمسألة حلايب وشلاتين ليس إلا تخفيفا للضغط عن حكومة البشير وشغل للشعب السوداني عن مشاكله الداخلية (هذا رغم ترحيبي بكل ما تبثه وسائل الإعلام السودانية ضد قائد الانقلاب في مصر).
الحقيقة أن هذه المشاكل هي ألغام تركها المحتل لتشغيل سيناريو التفكيك أو تقسيم المقسمات, وهي مشاكل غير قابلة للحل, ربما ليس الآن. وأنا لا أنظر إلى هذه الأمور عبر المنظار الحدودي الوطني الذي يحلو للبعض, فأنا أرى معمار المنطقة كله يتساقط في اتجاه التقسيم الكامل أو الوحدة الإقليمية الكاملة.
وأنا في هذا النوع من المشاكل أقف متفرجة ولا يعنيني الآن سوى الوثائق التي ستعثر عليها منى عبد الناصر في ملابس والدها.