كتب الصحافي المصري، ماجد عاطف، الذي عمل مراسلًا لموقع BuzzFeed في مصر، تقريرًا ميدانيًا لمجلة «فورين أفيرز» الأمريكية، تناول فيه الأوضاع في شمال سيناء في ضوء التطورات الأخيرة. قال عاطف:
أصبحت مدينة العريش، عاصمة محافظة شمال سيناء أرضًا خصبة لتجنيد المتطوعين لـ«تنظيم الدولة الإسلامية» (داعش)، وذلك بعد عقود من الهدوء من الهدوء النسبي. أعلن التنظيم، في التاسع من شهر يناير (كانون الثاني) مسؤوليته عن هجمات على نقطتي تفتيش في المدينة أودت بحياة ثمانية من أفراد الشرطة. بعد ذلك بأربعة أيام، أصدرت وزارة الداخلية المصرية بيانًا أعلنت فيه مقتل عشرة رجال وصفتهم بالإرهابيين. قتل أولئك الرجال في عملية بثتها على قنوات التليفزيون الحكومي، عندما اقتحمت قوات الأمن مخبأهم انتقامًا لهجمات داعش.
أفزعت هذه الصور الكثير من العائلات البدوية البارزة في شمال سيناء، الذي تعرفوا على ستة من القتلى، وهم رجال من السكان المحليين كانوا قد اعتقلوا من منازلهم منذ حوالي شهرين. تعتقد هذه العائلات أنَّ الشرطة قد أخذت أبناءهم من زنازنهم، ووضعتهم في شقة، ثم قتلتهم بدم بارد لإقناع المصريين أنَّ قوات الأمن تحارب الإرهاب بكفاءة.
قرر الممثلون عن هذه العائلات، في اجتماع ضمهم في اليوم التالي، رفض حضور اجتماع رتب لهم مع وزير الداخلية، مجدي عبد الغفار، الذي تراه العائلات خصمًا لها. وشملت قائمة المطالب التي تقدمت بها العائلات في هذا الاجتماع الإفراج الفوري عن كل السجناء من شمال سيناء المحتجزين قيد التحقيقات والذين لم يتلقوا أحكامًا قضائية حتى الآن. وتعهد المجلس، الذي لم يعد يثق في أمن أي مسجون في أيدي قوات الأمن المصرية، بالبدء في حملة من العصيان المدني لو لم يفرج عن المعتقلين.
ولما كانت هذه المنطقة قبلية، فإنَّ العائلات البدوية تمثل أغلب أصحاب التجارة والثروة والسكان. لو قرَّر رؤوس العائلات البدوية التوقف عن التعاون مع الشرطة والجيش، مثلًا، فسوف توضع قوات الأمن في موقف محرج وصعب. وهذا هو السبب الذي من أجله تحرص قوات الأمن على علاقات طيبة مع هذه العائلات.
لسكان العريش الحق في القلق. فقد عاد مئات من الإسلاميين المصريين من أفغانستان بعد الإطاحة بالرئيس المصري حسني مبارك، كما أطلق سراح المئات غيرهم. اعتقد أولئك الإسلاميون أنَّ الإطاحة بمبارك تمثل بداية عهد جديد. اختار الكثير منهم التجمع في شمال سيناء. وبدأ أولئك الإسلاميون العمليات ضد قوات الأمن في المنطقة بعد الإطاحة بالرئيس السابق، محمد مرسي، مباشرة. طمأن قائد الجيش الثاني، أحمد وصفي، المصريين أنَّ عمليات الجيش في سيناء ناجحة للغاية وأنها سوف تنتهي قريبًا، وأن سيناء سوف تصبح منطقة خالية من الإرهاب.
وبعد أكثر من ثلاث سنوات، ما تزال الهجمات الإرهابية ضد أفراد الأمن ونقاط التفتيش مستمرة. أخليت بعض الأماكن بالقوة، وهُجّر بعض السكان داخليًا، وفقد الجيش مصري معظم دعمه الشعبي، بينما اتخذت داعش مقرًا لها في سيناء.
وقال عاطف: في بيت بسيط بالعريش، استقبلني الشيخ علي الديب، الذي كان ابنه، عبد العاطي، واحدًا من الشباب الذين أعلنت قوات الأمن مقتلهم. قال الشيخ علي مغالبًا دموعه: «ابني قتل ظلمًا. في الثامن من أكتوبر (تشرين الأول)، جاءني ابن أختي صارخًا وأخبرني أنَّ ابني قد اعتقل. قال: إنَّهم كانوا في الشارع يسحبون سيارة معطلة عندما جاءت قوات الأمن فأخذوا ابني وشاحنته». عندما ذهب الشيخ علي إلى قسم الشرطة ليسأل عن ابنه «أنكروا أية صلة لهم بالقبض عليه، وقالوا: إنَّ داعش ربما تكون هي من اعتقلته. ثم لما وجدنا شاحنته داخل أحد أقسام الشرطة بالعريش، عدنا نسألهم عن سبب إنكارهم اعتقاله مع أنَّ شاحنته بحوزتهم». وقال الشيخ علي «لما تأكد من مكان ابني، حمدت الله أنه في أيدي الأمن. على الأقل كنت أعرف مكانه، ولم أتخيل قط أنَّ حياة ابني سوف تنتهي على أيديهم».
وأضاف عاطف: التقيت أيضًا أشرف حفني، المتحدث الرسمي باسم اللجنة الشعبية بالعريش. قال حفني: «الكثير من شبابنا معتقلون دون أية تحقيقات، وآخرون اختفوا قسريًا، لكن أن تقتل الدولة ستة شباب تحت قبضتها بالفعل، وتسميهم إرهابيين، مع أنَّ المدينة كلها كانت تعرف أنَّ أولئك الشباب كانوا في حوزة الدولة، فهذا أمر غير مسبوق. كل ما نريده أن نكون جزءًا من مصر، لكنَّ الدولة تحاول فصلنا عنها».
لطالما نظرت السلطات المصرية لمواطني سيناء بعين الشك والريبة، منذ عودة سيناء إلى السيطرة المصرية بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، خوفًا من أنَّ ولاءهم ربما كان مع الإسرائيليين لا المصريين. مواطنو سيناء محرومون من الوصول إلى أي منصب كبير في الدولة. ولا يمكنهم العمل في الجيش، أو الشرطة، أو الجهاز القضائي، أو الدبلوماسية. وفي الوقت ذاته، لم تقم الدولة بأية مشاريع تنموية في شمال سيناء خلال الأربعين سنة الأخيرة. قرى رفح والشيخ زويد ليس فيها مدارس أو مستشفيات، وليس فيها أي نظام حديث يستقبل المياه الصالحة للشرب. يعتمد السكان على مياه الأمطار والآبار، كما لو كانوا يعيشون في العصور الوسطى.
المدن الثلاثة الأساسية في شمال سيناء: رفح، والشيخ زويد، والعريش، معزولة عن باقي مصر إلى درجة أنه غير مسموح لأي مواطن مصري دخول شمال سيناء ما لم يكن/ تكن من سكان المنطقة، بإثبات البطاقة الشخصية. أصبحت نقاط التفتيش عبئًا كبيرًا: إذ يمكن للواحد أن ينتظر ثلاث ساعات، دون إبداء أية أسباب لذلك، قبل أن يسمح له بالمرور. أغلق الجيش الكثير من شوارع العريش، وجرفت مئات الفدادين من بساتين الزيتون. تزعم الدولة أنَّ بساتين الزيتون تلك كانت مخابئ للإرهابيين. وعلاوة على ذلك، قطعت قوات الأمن خدمة الإنترنت عن المدينة بأكملها لـ12 ساعة متواصلة يوميًا، خلال الأسبوع الذي قضيته هناك. أكوام الزبالة تتراكم في شوارع المدينة. إذ قررت الدولة معاقبة المواطنين بعدم استبدال شاحنات القمامة التي أحرقتها داعش في إحدى هجماتها، بأخرى جديدة.
حتى وقت قريب، كانت العريش آمنة نسبيًا من الصدامات المسلحة بين الدولة وداعش، لكنَّ الكثير من سكان الشيخ زويد ورفح فروا هربًا إلى العريش نتيجة للعمليات العسكرية المستمرة في هاتين المنطقتين. أما الآن، فمن المعتاد أن تسمع أصوات طلقات النار طول الليل. وقال المتحدث الرسمي للجيش إن القصف المكثف لجنوب المدينة يهدف إلى تصفية معاقل الإرهابيين.
وقال عاطف: حاولت الدولة المصرية، على مر السنوات، أن تشتري ولاء قبائل بدو سيناء، عن طريق تحويل دور الزعيم القبلي إلى منصب حكومي رسمي. ولكن بدلًا من السماح للقبيلة أو القرية باختيار رئيسها، تقوم الدولة بهذه المهمة. ونتيجة لذلك، فإنَّ المسؤولين الرسميين لم يعودوا شخصيات قيادية حقيقية للعائلة أو مصدرًا للثقة. ووصف صفوت جلبانة، وهو أحد الشخصيات القيادية في عائلة جلبانة في العريش، الوضع الحالي بقوله: «أعمى يقود ضريرًا. يقول زعماء الأسر المعينين من قبل الدولة للدولة ما تحب سماعه، وربما عاد أولئك الزعماء بتعليمات أمنية من الأمن إلى الناس. لكن هل هؤلاء الزعماء قادرون حقًا على احتواء الوضع؟ أشك في هذا».
وبحسب عاطف، فإنَّ سكان سيناء سوف يظلون بين مطرقة الجيش وسندان داعش، طالما لم يكن هناك زعماء أقوياء. وعلى الرغم من تدين سكان سيناء، إلا أنهم عمومًا يرفضون خطاب داعش، ويحملونها المسئولية في تردي الأوضاع. وعلى الجانب الآخر، فإنَّ ثقة الناس في الجيش تتناقص كل يوم، مع قطع الجيش للاتصالات والخدمات، ومحاصرته للمدينة وقصفه للقرى وتهجيره للسكان. عندما يسلم السكان إرهابيًا إلى الجيش، تذبحهم داعش دون رادع. ولو ظلوا ساكتين، ربما تعتقلهم المخابرات العسكرية وتهدم منازلهم، أحيانًا بينما هم ما يزالون داخلها.
إحدى أمثلة هذه الديناميكية الحزينة وقعت في العاشر من نوفمبر (تشرين الثاني). توقفت سيارتان في إحدى الميادين وسط مدينة العريش، في منتصف اليوم. قفز خمسة مسلحين من السيارتين. سحبوا من إحدى السيارتين رجلًا في العقد الرابع من العمر وألقوا به على الأرض، ويداه موثقتان وراء ظهره. غمغم المسلحون شيئًا لم يستطع المارة تبينه، ثم أطلقوا رصاصة على رأس الرجل صارخين: «الله أكبر!» و«المجد للإسلام!». وعندم اقترب المارة من جسد الرجل اكتشفوا أنه تاجر معروف من تجار العريش.
وقال عاطف: تمكننا، بصعوبة، من الكلام مع أحد أقارب الرجل الوثيقين، وهو شاب وافق على الكلام بشرط عدم ذكر اسمه. قال الشاب: إنَّ الضحية كان «مالكًا لشركة أثاث، وكانت يزود مكاتب وحدات الجيش في العريش بالأثاث المكتبي. لم يبلغ الرجل الجيش عن أعضاء من داعش. كل ما فعله هو التجارة مع الجيش، لكنَّ عقوبة ذلك كانت القتل في الشارع في وضح النهار. لم يحرك الجيش ساكنًا بعد مقتل التاجر، بل لم يعد حتى بالعثور على الجناة».
خاطب الشاب الدولة غاضبًا: «أنتم تحتجزوننا، وتتهموننا بالخيانة، وتقصفون منازلنا، ثم لا تتعبون أنفسكم في إيجاد من قتلنا لو تعاوننا أو تاجرنا معكم. هذا الاضطهاد والظلم الذي تذيقونه سيناء لن يؤدي إلا إلى خلق بيئة خصبة لتجنيد أعضاء لداعش. لقد حولتم سيناء إلى حاضنة للإرهاب، فلا تلومن إلا أنفسكم».